تعيد إدارة ترامب مختلف أزمات المنطقة المفتوحة إلى مربعاتها الأولى، في سعي حثيث للتخلص من "إرث أوباما" والخلاص من أية التزامات تأسست عليه... بعض المراقبين يصف هذه السياسة بـ "اللا سياسة"، بعضهم الآخر يتحدث عن فقدان البوصلة والاتجاه، وصولاً للتخبط والارتباك المحرجين... لكن من يراقب إدارة الجنرالات يستنتج أن ثمة سعي منهجي ومنظم، لتمديد أزمات المنطقة وإعادة صياغة قواعد اللعبة في كل من اليمن وسوريا والعراق وصولاً إلى لبنان.
اليمن، الذي قلنا فيه مبكراً، بأنه سيكون ساحة "فرد العضلات" الأمريكية الأولى، وعلى أرضه ستختبر إدارة ترامب "حزمها وعزمها"، وتظهّر اختلافها الكلي عن إدارة أوباما المترددة والضعيفة... في اليمن هذا، لا يتوقف التصعيد الحربي منذ مجيء هذه الإدارة، وتغيب الانتقادات والإدانة لما يقترف على أرضه من جرائم حرب، باستثناء تلك التي يُتهم بها الحوثيون وأنصارهم، ويعمل الجنرال ماتيس على إعادة الاعتبار للعلاقة الاستراتيجية مع السعودية والإمارات، ويرفع الحظر عن صادرات مختلف أنواع الأسلحة والأجهزة والذخائر لهذه الأطراف... أما الحديث عن الحلول السياسية، فيندرج في باب "رفع العتب"، فيما "خطة كيري" باتت نسياً منسياً، لا يذكرها إلا الحوثيين (بعد خراب البصرة).
وفي سوريا، تبدو "صفقة الكيماوي" التي دفعت إدارة أوباما للتراجع عن توجيه ضربة عسكرية لدمشق، وكأنها لم تكن... "لا شك" عند "الكلب المسعور" بأن النظام ما زال يمتلك مخزوناً من الأسلحة الكيماوية، ونتنياهو يقدرها بالأطنان... وأولوية محاربة "داعش" تتراجع نسبياً لصالح تقدم أولوية "تحجيم إيران" واحتواء نفوذها... أما مصير الأسد، فسيتقرر بالتزامن مع مسار الحرب على الإرهاب، لكن لا مكان له في مستقبل سوريا... واشنطن لا تكتفي بتعطيل مسار أستانا، بل ولا تبدي حماسة لمسار جنيف كذلك، وهي عطلت لقاءً ثلاثياً لهذا الغرض... كل ما توصلت إليه إدارة أوباما من تفاهمات مع موسكو، وكل ما قاله المرشح دونالد ترامب، أو الرئيس ترامب قبل حادثة خان شيخون وضربة التوما هوك، ينتقل الآن إلى أرشيف الأزمة السورية، لتبدأ صفحة جديدة، وبقواعد جديدة للحل والحرب على حد سواء.
في العراق، لا تبد الصورة مختلفة كذلك... واشنطن تعمل على بلورة محور مناهض لإيران، أو على الأقل، غير متناغم معها، بدءاً برئيس الحكومة ومكونات سنية وكردية، ومن دون أن توصد الباب في وجه أية كيانات شيعية مستعدة للتساوق مع هذا المسار... واشنطن كذلك، ترسم لنفسها دوراً في "حفظ أمن العراق واستقراره" في مرحلة "ما بعد داعش"، وهي ترسل قوات إلى هذا البلد، لتبقى وليس لتنسحب بعد أن تضع الحرب على داعش اوزارها، وهي تعمل ترتيبات على الأرض، مع أطراف عديدة، لوجود مستدام، وتضع نصب عينيها، قطع طرق الاتصال والتواصل البرية الإيرانية بين سوريا والعراق، فـ "الحزام البري الإيراني"، غير مسموح، والخط الواصل بين بحري قزوين والمتوسط، يجب أن يقطع على الحدود السورية – العراقية.
وفي لبنان، لم يعد حزب الله وبيئته الشيعية الحاضنة، هي هدف العقوبات الأمريكية، من مالية واقتصادية، الإجراءات التي يجري التفكير بها، ستتوسع كثيراً، وستشمل كل من صادق وناصر وتحالف مع الحزب، من حركة أمل إلى التيار الوطني الحر وتيار المردة وعشرات الأشخاص والأحزاب والشخصيات الدينية السنية، التي تعبر عن صداقتها للحزب... عمليات العزل والخنق، ستذهب بعيداً، وقد تطاول مؤسسات الحكومة والأجهزة التي يشارك بها الحزب أو تحسب عليه... الأمر الذي ينذر بانهيارات لن تتوقف حدودها عن المال والاقتصاد و"الليرة اللبنانية"، بل قد تطاول الأمن والسياسة والوحدة الوحدة والتوافقات التي أطلت برأسها في أواخر عهد إدارة أوباما.
مثل "الكيماوي السوري"، تسعى إدارة الجنرالات إلى فتح "النووي الإيراني"، صحيح أن تيلرسون أكد التزام إيران بالاتفاق حتى تاريخ 18 نيسان/أبريل الجاري، على حد تعبيره، لكن رئيسه دونالد ترامب، يرى أن إيران "خرقت روح الاتفاق" وإن لم تخرق نصوصه... ما يعني أن لهذه الإدارة معايير خاصة بها للحكم على حسن تنفيذ الاتفاق، تصل إلى حد البحث في "النوايا" و"المشاعر" و"الغيبيات" وليس الممارسات والإجراءات الملموسة والقابلة للقياس فحسب... نحن إمام إدارة تسعى عن سبق الترصد والإصرار إلى "جر شكل" مع إيران، سواء التزمت بالاتفاق أم لم تلتزم.
تفاهمات كيري اليمنية، وتوافقات لبنان التي جاءت بالثنائي عون – الحريري إلى الرئاستين الأولى والثالثة، صفقة الكيماوي السورية، والاتفاق النووي الإيراني، جميعها عناوين باتت من مخلفات مرحلة أوباما وإدارته "الضعيفة والمترددة"، نحن أمام إدارة جديدة، وبقواعد ومعايير جديدة للعبة والاشتباك، تَعِد المنطقة بتمديد أزماتها لسنوات عديدة قادمة، بعد أن كانت على وشك الدخول في تسويات ومقايضات كبرى.
إسرائيل وبعض العرب، فرحون بهذه التوجهات، الأولى لها كل الحق في ذلك، فإطالة أزمات المنطقة وتعقيدها وتفاقم الصراعات التي تعتمل بداخلها، أمر يصب الحب صافياً في طاحونة مصالحها، وكان منذ البدء، جوهر سياساتها ومقاربتها... لكن السؤال ماذا عن مصلحة العرب في تمديد الأزمات التي تعتصر بلدانهم وتستنزف مواردهم، وتهدد اوطانهم ومجتمعاتهم في صميم وحدتها وتماسكها... ماذا عن هؤلاء الذين أعمتهم صراعاتهم السياسية والمذهبية، عن إدراك، أنهم وحدهم، من سيدفع ثمن تمديد هذه الأزمات وإطالة عمرها، قبل أن يدركوا أن وعود واشنطن لهم ستتبخر في الهواء، وأن مستقبل الموجة الجديدة من الحرب الأمريكية على المنطقة، لن يكون أفضل من جولاتها السابقة، والتي انتهت بخسارة أفغانستان لطالبان، والعراق لإيران وداعش، وفوق كل هذا وقبله، فلسطين لإسرائيل.
اضف تعليق