شهد النظام السياسي في العراق بعد عام 2003 تحول نحو النظام الديموقراطي وكانت احد اعمدة هذا التحول هو التعددية السياسية التي افرزت حالة التعددية الحزبية. وظهرت عند ذاك عدد كبير من الاحزاب والقوى السياسية، وأُطر لها قانونيا بموجب امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 97 لعام 2004 ثم قانون الاحزاب والتنظيمات السياسية رقم 36 لسنة 2015.
وتتباين القوى والاحزاب السياسية في العراق من حيث الاهمية والامتداد والعمق، فالبعض منها نما داخل العراق واضطر الى الخروج منه ونقل نشاطه معه، ومنها ما تشكل في الخارج ليدخل العراق بعد التغيير السياسي ويبدأ نشاطه السياسي، ومنها ما تشكل بعد العام 2003. وهذه التعددية ظهرت بعد عقود من الحزب الواحد المسيطر على ادارة البلاد.
ومع ان التعددية السياسية والتعددية الحزبية مرحلة جديدة للعراق ومطلوبة لتتماهى مع حركة تطور النظام السياسي الذي انتقل الى مرحلة التحول الديمقراطي، الا ان عناصر تلك التعددية كان طوال المدة بعد 2003 مختلفة في عدة اتجاهات. اذ توجد في العراق نموذجين من الاحزاب هما الاحزاب الدينية والاحزاب العلمانية. وبعض من أحزاب القسمين كانت تشترك قبل عام 2003 في ائتلاف المعارضة العراقية، وكان لها بعد 2003 دور فاعل في المشهد السياسي، وسيطرت تقريبا على مجلس الحكم الذي تشكل بقرار من سلطة الائتلاف المؤقتة، وكذلك على الحكومة المؤقتة. بينما كانت هناك قوى أخرى بعضها قديم والآخر حديث التشكيل أخذت موقف المعارضة ورفضت المشاركة في العملية السياسية قبل جلاء الاحتلال.
لكن الملاحظ ان العلاقة بين عناصر هذه التعددية الحزبية اتسمت بالصراع ومعيارها هو المصالح الطائفية والحزبية والشخصية. ولأجل ذلك اعتمدت تلك القوى والاحزاب اساليب عدة منها غير مشروعة مثل التسقيط السياسي والتسقيط عبر الاعلام ومنها مشروعة مثل الاستجواب وسحب الثقة من اعضاء الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية بعيدا عن المصلحة الوطنية.
مع تشكيل مجلس الحكم والجمعية الوطنية والحكومة المؤقتة وضع اول اساس لهذه العلاقة التصارعية وهو اساس لانعدام الثقة والخوف من الاخر. ولأن ذلك يتماهى مع الافق الضيق لتلك الكتل والقوى السياسية وانعدام الرؤية لإدارة الدولة، فإنها لم تُبدي موقفا مصححا لسلوكيات سلطة الائتلاف المؤقتة وماتضمنته تلك السلوكيات من اخطاء كبيرة. الامر الذي شكل نقطة البداية للخلافات بين تلك القوى وعمق عدم الثقة بينها وهذا ما انعكس على السلوك السياسي لها. وبالتالي فإن السلوك السياسي المتصارع اثر سلبا بشكل كبير تجسد بعدم الاستقرار السياسي والخراب الذي طال مؤسسات الدولة الامر الذي اوصل البلاد الى حافة الهاوية امنيا وسياسا واقتصاديا واجتماعيا... الخ.
في المرحلة الحالية هناك عدد من المعطيات التي ظهرت اخيرا وزادت العلاقات بين القوى السياسية تشنجا، منها الداخلية مثلا مسألة الحشد الشعبي ومستقبله، والتظاهرات الشعبية منذ تموز 2015 واستمرارها الى الوقت الحاضر، والدولية مثل تفعيل العلاقة مع الولايات المتحدة وموقف الاخيرة من الدور الايراني في المنطقة. هذه المعطيات وغيرها اثرت سلبا في العلاقات بين القوى السياسية.
الحشد الشعبي والعلاقة بين القوى السياسية
مع سيطرة تنظيم داعش الارهابي على مناطق شمال وشمال غربي البلاد في حزيران 2014 والجهد العسكري لتحرير الاراضي ظهر تغيير كبير في حال اغلب القوى السياسية العراقية. إذا اظهرت اغلب تلك القوى لاسيما الاسلامية تياراتها المسلحة مستفيدة من فتوى الجهاد الكفائي لكسب شرعية التحرك تارة ومن الحاجة لقدراتها في مساندة القوات الامنية في دحر التنظيمات الارهابية وفي مقدمتها داعش تارة اخرى. كذلك فرضت المرحلة تغيير في السلوك السياسي لتلك القوى وبدأت ملامح التقاطع والتعارض تتضح لاسيما في قضية تشكيل الحشد الشعبي ووصفه بانه يضم التيارات المسلحة للقوى والاحزاب الاسلامية الشيعية فقط كتيارات واضحة الاداء والدور ولايوجد فيه قوات من المكون السني كتيارات وفصائل محددة على الرغم من انه يضم الالاف من ابناء المكون السني. وهذا اجج عدم الثقة بين القوى السياسية. ونعتقد ان مستقبل الحشد الشعبي سيثير توترات أكثر في العلاقة بين القوى السياسية وفي مقدمتها الشيعية والتي بدأت تظهر ملامحها مؤخراً.
الاحتجاجات الشعبية والعلاقة بين القوى السياسية
يشكل استمرار التظاهرات والاحتجاجات الشعبية منذ نهاية تموز 2015 الى الوقت الحاضر مصدر احراج كبير للقوى السياسية المتنفذة في ادارة الدولة والتي صممت المنظومة السياسية بما يتفق ومصالحها. وهذا الاحراج نابع من ان هدف التظاهرات هو تهديم هذه المنظومة. وبالتالي شكلت التظاهرات عامل يزيد من تشنج العلاقة بين القوى السياسية.
العلاقة مع الولايات المتحدة والموقف من الدور الايراني
مرحلة بعد اخرى يزيد تأثير الخارج الاقليمي والدولي –لاسيما الفاعلين– في النظام السياسي العراقي وعناصره بعد 2003 لاسيما القوى السياسية. ولهذا كثير من هذه القوى -ونتيجة لتماهي سلوكايتها مع اهداف الفاعل الاقليمي– لايناسبها توجهات الحكومة العراقية الاخيرة في التقارب مع الولايات المتحدة التي اعلنت دعمها الكبير للحكومة العراقية وانها لن تفرط في العراق كما فعل الرئيس السابق باراك اوباما عام 2011 لصالح النفوذ الايراني.
في ذات السياق اعرب رئيس الوزراء حيدر العبادي عن تأييده لبقاء جزء من القوات الأميركية في العراق من أجل دعم القوات العراقية بعد هزيمة تنظيم داعش وتحرير الموصل. وقال العبادي، في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الاميركية ان " القوات العراقية بحاجة لبقاء القوات الأميركية لمواصلة مهام تتعلق بالتدريب والدعم اللوجستي والتعاون في المجال الاستخباراتي ". هذا الامر اثار جدلاً لدى القوى السياسية المعارضة للوجود الاميركي.
كل هذه المعطيات وغيرها ترسم لنا صورة قاتمة لطبيعة العلاقات بين القوى السياسية العراقية الامر الذي يؤثر سلبا على النظام السياسي واداءه المتدني على كافة الاصعدة وستزيد المصاعب امامه وربما تُدخله في مرحلة مظلمة.
وازاء ذلك، تكون المهمة صعبة امام الحكومة العراقية. اذ ان ترصين الجبهة الداخلية وتحسين اداء النظام السياسي يعتمد على اذابة التوتر بين القوى السياسية وارساء ثوابت الثقة بينها عبر اظهار الهوية الوطنية للدولة العراقية نظاما وحكومةً وهذا الامر سينعكس ايجابا في المستقبل المنظور في رجوع القوى السياسية الى مجتمعها ودولتها.
وفي الامد القصير تحتاج الحكومة العراقية الى تعزيز العلاقات مع الاطراف الفاعلة اقليميا واخراج العراق من حلبة الصراعات الاقليمية وان لا يكون جزء من ساحة التنافس الجيوساسي بين تلك الاطراف. اذ ان الصراعات بين القوى السياسية في العراق هي انعكاس لحالة الصراع والتنافس الجيوسياسي الذي يلف المنطقة.
اضف تعليق