ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتكتيك "شد العصب القومي" لدى الأتراك لتحقيق أغراض سياسية، انتهازية بالأساس... فعل ذلك بعد انتخابات حزيران 2015، عندما فشل في الحصول على الأغلبية الكافية في البرلمان لتشكيل الحكومة منفرداً، فشن حرباً شعواء على أكراد بلاده، أفضت إلى سقوط ألوف القتلى والجرحى من مختلف الأطراف، وتشريد أكثر من نصف مليون كردي وتحويل قرى وأحياء إلى أحياء، لا تشبهها سوى أحياء حلب وحمص بعد سنوات ست من الحرب في سوريا وعليها وفقاً للتقارير الأوروبية والأممية.
نجح تكتيك أردوغان آنذاك، وحصل في انتخابات نوفمبر من العام ذاته، أي بعد ستة أشهر فقط من التجييش ضد الأكراد (أتراك الجبل)، على خمسة ملايين صوت إضافي، منها مليوني صوت من حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهتشيلي، وحوالي مليون صوت من حزب الشعوب الديمقراطية بزعامة صلاح الدين ديمرطاش، والبقية من قوميين مترددين...
أدرك السيد أردوغان، أنه على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها في "أسلمة" الدولة والمجتمع التركيين، وعلى الرغم من ارتفاع منسوب الخطاب المذهبي السني في خطابه، إلا إن "العصب القومي" التركي ما زال حساساً ويقظاً وقابلاً للاشتعال والشد، في المنعطفات الكبرى، فلعب عليه ضارباً عرض الحائط بوحدة البلاد والعباد، بل ومُدخلاً تركيا في أتون حرب أهلية، لا أحد سيعرف متى ستنتهي وكيف.
اليوم، وعشية الاستفتاء المقرر في السادس عشر من نيسان/أبريل القادم، وفي ضوء التقارير التي تتحدث عن انقسام الشعب التركي إلى نصفين متقاربين في الموقف من النظام الرئاسي، مطلق الصلاحيات، الذي يقترحه أردوغان على شعبه، كان لا بد من اللجوء إلى خزان الأصوات التركية الموزعة في أوروبا، وتحديداً في ألمانيا، علّه بذلك، يضمن فوزاً واضحاً في معركة الاستئثار بالسلطة ومركزتها بين يدي رجل واحد، أو بالأحرى إعادة تفصيل النظام السياسي التركي على مقاسه وبما ينسجم مع طموحاته الشخصية.
ولأن أتراك أوروبا منقسمين، بين كرد وأتراك، وعلمانيين وإسلاميين، فقد خشيت أوروبا من أن تثير مهرجاناته الدعائية الحاشدة، الانقسام والاضطراب في أوساط هذه الجاليات، فقرر بعض دولها منع تنظيم هذه المهرجانات، ومنع استقبال وزراء الحكومة للقيام بحملات دعائية لصالح دستور جديد، ترى فيه أوروبا أنه "مأسسة ودسترة للديكتاتورية الناشئة" في تركيا، والتي تظهّرت صورتها وتكشفت أنيابها ومخالبها بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز/يوليو الفائت، حيث وفرت هذه المحاولة الآثمة، فرصة للسيد أردوغان للخلاص من جميع خصومه ومعارضيه بالجملة ودفعة واحدة، بعد أن ظل يفعل ذلك بالتقسيط وعلى دفعات.
ومرة أخرى، وللغرض ذاته، يعاود السيد أردوغان اللعب على وتر الحبل الطوراني المشدود، وينجح في خلق حالة من الاهتياج في الشعور القومي التركي، على أمل الحصول على المزيد من الأصوات، وضمان تأييد الأحزاب القومية لاستفتائه الوشيك، وأحسب أنه نجح في ذلك إلى الان، على الرغم من الخسائر التي ألحقها بصورة تركيا ومكانتها على الساحة الدولية، جراء تصريحاته ومواقفه الرعناء، التي تنتمي إلى مدرسة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
طبعاً، لقد وجد اليمين الأوروبي، المنتعش على وقع الهجرات وموجات اللاجئين العرب والمسلمين إلى أوروبا، ضالته في الموقف التركي، فشن بدوره أبشع عمليات الابتزاز والاستفزاز، واستعاد خطابه العنصري كامل لياقته وحيويته، في تأكيد متجدد على أن التطرف هنا يخلق تطرفاً هناك، وأن اليمين "الإسلاموي" – القومي، نجح في إنعاش اليمين القومي و"المسيحوي" وتعزيز مكانته في أوروبا.... ومثلما أقدم أردوغان على اللعب على وتر "القومية التركية"، لعب هؤلاء على وتر "الإسلاموفوبيا" وعزفوا مطولاً على الأوتار القومية لبلدانهم.
إلحاق صفات النازية والفاشية بألمانيا وهولاندا، أمرٌ مثير للسخرية، سيما حين تصدر عن رجل يقود بلاده صوب توتاليتارية دينية – مذهبية - قومية، وحولها من مشروع "للديمقراطية الناشئة" إلى مشروع "للديكتاتورية الناشئة"، بعد أن صارت أكبر سجن للصحفيين في العالم، وبات جنوبها الشرقي منطقة عسكرية منكوبة، في بلد يُطرد فيه القضاة والمدرسون وأساتذة الجامعات بالجملة من وظائفهم، ويطلب فيه دبلوماسيوها اللجوء السياسي في الدول الموفدين إليها، بالجملة أيضاً.
لكن ما يدعو للسخرية أكثر، هو سيل التهديدات بالعقوبات والعواقب الوخيمة التي سيلحقها السيد أردوغان بأوروبا الفاشية والنازية، فهي تذكر بمغامرات السيد دون كيشوت، الذي تقمص شخصية الفارس، وحاول إحياء الفروسية الجوالة في غير أوانها، او بعد فوات أوانها... وهي تذكرنا بتصريحاته العنترية ضد روسيا وإيران وسوريا والعراق وإسرائيل، والتي تراجع عنها دفعة واحدة، جملة وتفصيلاً.
ونراهن في هذا المقال، على أن حروب السيد أردوغان الدونكيشوتية ضد أوروبا، ستتضع أوزارها ما أن تشف صناديق الاقتراع في الاستفتاء القادم عن محتوياتها، وسنرى استدارات وانعطافات كبرى في السياسة التركية (وربما اعتذارات كما في الحالة مع روسيا)، فتركيا ترتبط بأوروبا وألمانيا على نحو خاص، بشبكة مصالح لن يكون بمقدوره المقامرة بها... لكن مرة أخرى، يثبت السيد أردوغان أن زعامته الشخصية وبقاء حزبه في سدة الحكم منفرداً، هي الأولوية الأولى التي يقيم لها وزناً وحساباً، وبخلاف ذلك إلى الجحيم بكل شيء، حتى وإن كانت تركيا قبل غيرها، وأكثر من غيرها، هي من سيتضرر بهذه السياسات الرعناء والطائشة، والخارجة على مألوف العرف والتقليد.
اضف تعليق