يعتبر التفاوض من السلوكيات التي مارسـها الإنـسان منـذ أقـدم العصور وعبر تاريخه الطويل، وفي قضايا لا حصر لهـا، تتـراوح فـي أهميتها ما بين أحداث الحيـاة اليوميـة البـسيطة، والمـشاكل الـسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية المعقدة. والتفاوض كوسيلة من وسائل تبادل وجهات النظر بين طرفين أو أكثر، يستخدم في السلم والحرب على حد سواء.
وفي ظل تطور وتنوع العلاقات بين الجماعات والمؤسسات والتكتلات المختلفة داخل الدولة الواحدة، وتطور وتعقد العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين الدول المختلفة، أصبح التفاوض سواء على المستوي المحلي أو الإقليمي أو الدولي أداة هامة في تسوية المشاكل وحل الخلافات وخنق الازمات وإحلال الوفاق، وفي العمل على زيادة التفاهم والتفاعل وإقامة التوازن بين المصالح المختلفة وبين الآراء والمصالح المتباينة وبين الحقوق والواجبات.
فما هو التفاوض؟ وما هي أهدافه؟ ما هي مراحله وطرقه؟ وما هي سماته وأنواعه؟ وما هي نتائجه وآثاره على حياة الأفراد والجماعات والأمم...؟
هناك أكثر من تعريف للتفاوض منها: هو "نوع من الحوار أو تبادل الاقتراحات بين طرفين أو أكثر بهدف التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى حسم قضية نزاعية بينهم، وفي نفس الوقت الحفاظ على المصالح المشتركة فيما بينهم، أي أن للتفاوض ركنين أساسيين هما وجود مصلحة مشتركة أو أكثر، ووجود قضية نزاعية أو أكثر. أو هو "أسلوب للحوار والتعبير عن وجهات النظر انطلاقا من موقف معين بغية الوصول إلى اتفاق ملزم بين الأطراف المـشتركة فـي عمليـة التفاوض حول موضوع معين يكون اقتـصاديا أو سياسـيا أو اجتماعيـا أو غيره من عدة دول أو دولتين وكذلك بين المنظمـات حـول التحالفـات أو الاندماجات وغيرها".
وجدير بالذكر أن اختلاف الرؤى والمواقف يمكن أن يكـون محـلا للتفاوض إلا أن تباين وتعارض المصالح هو أكثر الموضوعات التي تـدعو إلى التفاوض والحوار.
تهدف المفاوضات في العادة إلى تضييق الخلاف بين أهداف طرفي التفاوض إلى الدرجة التي يمكن القول بأنها النتيجة المرضية بالنسبة للطرفين هي أفضل من اتخاذ قرار من جانب كل طرف على حدا أو التصرف الفردي لأي من الطرفين أو محاولة فرض حل من جانب أحد الأطراف على الطرف الأخر، مما يؤدي في النهاية إلى حدوث صدام قد يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها لكل الطرفين، وقد تهدف المفاوضات إلى زيادة الفهم المشترك والتعاون بين الأطراف من أجل توسيع رقعة الاتفاق حتى تستوعب القضية موضع الخلاف. وقد تظهر الحاجة إلى التفاوض عندما تكون هناك أهداف مشتركة لطرفي النزاع غير أن مصالح واهتمامات هذه الأطراف تكون متعارضة.
هناك طرق مختلفة للتفاوض السياسي أو الدبلوماسي، منها: طريقة التفاوض الدبلوماسي العادية وتتحقق باستخدام مساعدي السفراء لدى الدولتين صاحبتي المشكلة لحلها في أضيق إطار. ومنها: المساعي الحميدة وتتحقق بإشراك طرف ثالث لتنشيط الحوار وتقديم المساعدة والمشورة للطرفين. ومنها: الوساطة عن طريق إشراك طرف ثالث يكون دورة أكثر فاعلية ومساهمة في حل المشكلات القائمة. ومنها: لجان التحقيق الدولية والتحكيم، والتسوية القضائية والمؤتمرات والاجتماعات الدولية وغيرها.
ويمر التفاوض بمراحل مختلفة:
كمرحلة الاستكشاف وهي محاولة الأطراف في تكوين نوع من الفهم لمتطلبات كل منهم من الأخر. والوصول إلى نوع من الإحساس المشترك بإطار الاتفاق الذي يمكنهم من التوصل إليه. ومحاولة كل طرف أن يظهر اتجاهه بشكل جاد اتجاه الطرف الأخر.
ومرحلة تقديم العروض والمقترحات حيث يقوم أحد الأطراف أو كلاهما معا بتقديم عروضه ومقترحاته بالنسبة لكل قضية من القضايا في الصفقة، وعادة ما يعتمد كل طرف تقديم عروض مشددة (أقصى ما ينبغي تحقيقه من عملية التفاوض).
ومرحلة المساومة وفي هذه المرحلة يلجأ كل فريق يفاوض الفريق الأخر من اجل تحقيق ميزة نسبية لصالحة وكلاما وصلت مرحلة المساومة إلى درجة النضج تأتي لحظة يدرك فيها كل طرف أن الاتفاق بينهما قد أصبح في متناول اليد، وهنا تبدأ مهلة الاستقرار على الصفقة أو الوصول إلى اتفاق أو تسوية.
ومرحلة إقرار الاتفاق وهي مرحلة إقرار الاتفاق بشكل مكتوب عادة، وفي بعض الأحيان يشمل ذلك تحديد التفاصيل القانونية ويجب على فريق التفاوض أن يراجع البنود المكتوبة بمنتهى الدقة.
ويجب أن يأخذ في الحسبان أن الطريقة التي يتم بها تناول هذه المراحل في عملية التفاوض تختلف من موقف إلى أخر. وفي الغالب لا تسير هذه المراحل في تتابع منطقي واضح، وقد نجد في أطراف التفاوض من يقومون بتحركات مفاجئة إلى الأمام أو إلى الخلف عبر هذه المراحل وأحيانا نجد المفاوضين يتبعون هذه المراحل في أحد جوانب الصفقة إلى النهاية وهكذا إلى الجانب الثاني ويجب إلا تؤثر هذه المناورات على خطط عمل الطرف الأخر.
وفي الواقع فان المفاوضات الناجحة هي تلك المفاوضات التي تأخذ وتلتزم بالمبادئ الآتية:
- لا يوجد حق مطلق أو باطل مطلق، وأن على كل طرف ألا يسعى فقط إلى تفهم وجهة نظر الطرف الآخر بل إن عليه أن يبين بجلاء أنه حريص فعلاً على ذلك.
- الإفصاح عما في الخواطر فكتمان المشاعر واحتباسها يؤدي بها إلى أن تعاود الظهور وربما الانفجار.
- الحفاظ على ماء الوجه للطرف الآخر، بل وحتى إظهار الاحترام له بالقدر المناسب، فتبادل الإهانات والشتائم ومحاولة إحراج الخصم وحشره في الزاوية لا يؤدي إلا إلى زيادة تشبث كل طرف بموقفه، ويجعل من التنازل رديفاً للهزيمة والانحسار.
- الإصغاء وإتاحة الفرصة أمام كل طرف لقول ما لديه والحرص على أن يكون الإصغاء مقروناً بمحاولة الفهم.
- عدم التركيز على الماضي وحكاياته، فمع أن المنظور التاريخي مهم لتفهم أسباب الخلاف وإدراك وسائل التعامل معه، إلا أن ينبغي ألا يظل أطراف النزاع أسرى للماضي وعليهم أن يتطلعوا إلى المستقبل بأسلوب بنّاء وإيجابي.
- مع أن الطرفين المتفاوضين يمثلان مواقف رسمية للجهات التي يمثلانها إلا أن مهارة المفاوضين تتمثل في قدرتهم على الإبداع الخلاق في كيفية صياغة هذه المواقف بما لا يخرج عن إطارها وفي الوقت ذاته يكون أكثر قبولاً لدى الطرف الآخر.
- نتيجة المفاوضات ينبغي أن تشتمل على مكاسب للطرفين وأن نجاح المفاوضات هو النصر الحقيقي لهما، ولا ينبغي لأي من الطرفين أن يسعى إلى التباهي بأنه قد حقق نصراً على نظيره المقابل.
.....................................
اضف تعليق