تستخدم عبارة "مدافع عن حقوق الإنسان" للدلالة على الشخص الذي يعمل بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين من أجل النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها. ويتعرض المئات من المدافعين عن حقوق الإنسان -عبر العالم- للعنف السياسي، بسبب دفاعهم عن حقوق الآخرين. وهم يجازفون بسلامتهم الجسدية والنفسية، ويكافحون من أجل وضع حد لإفلات منتهكي حقوق الإنسان من العقاب، ومن أجل النهوض بالعدالة الاجتماعية والسلم.
وفي أحايين كثيرة، يكون المدافعون عن الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للآخرين بحاجة إلى البحث عن أشخاص في التاريخ الإنساني قد سبقوهم في الدفاع عن حقوق الآخرين، وعرضوا حياتهم وأسرهم وأصحابهم للأخطر؛ ربما للإطلاع على سيرة حياتهم، وطرق أداء أعمالهم، والنتائج التي تحصلوا عليها بعد حين، وربما ليكونوا قدوة صالحة لهم يستمدون منهم الإرادة والصبر في دفاعهم عن الكرامة والحقوق والحريات.
فهل هناك إنسان -في التاريخ-عرف كل ما له ولامته من كرامة وحقوق وحريات؟ هل هناك إنسان دافع عن حقوق رعيته دفاعا مستميتا في قبال سلطة مستبدة جائرة؟ هل يوجد إنسان على وجه الأرض اُنتهكت حقوقه وحقوق أسرته أبشع انتهاكا؟ هل على وجه الأرض من ضحى -في سبيل الدفاع عن كرامته وحقوق أمته المسلوبة- بمنزلته الرفيعة وحياته الكريمة وأسرته الشريفة، وأصحابه البررة، حتى قُتل هو، وسبي أهل بيته؟
هل هناك قائد خطب في قومه قائلا، "ألا ترون إلى الحق لا يٌعمل به وإلى الباطل لا يٌتناهى عنه" هل هناك ملهم مازال يحمل في حاضر أمته ومستقبلها، لواء "هيهات منا الذلة" فيخافه الطغاة والمستبدون في كل زمان وفي كل مكان؟ هل هناك ضريح في العالم كله يقصده الأحرار، ليرددوا ما قال صاحبه لطغاة عصره "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد"؟
الجواب نعم؛ هو إنسان واحد، لم يوجد غيره، ولا يوجد غيره، ولكنه يظل موجودا في كل ضمير إنسان حي، هو الحسين بن علي أبن بي طالب! وهذه دعوة مفتوحة لنعرف معا جزء من نضال الحسين بن علي ضد طاغية عصره من أجل سيادة القانون والعدالة والكرامة الإنسانية.
فما هي حقوق الإنسان؟ وكيف يتوجب على الدولة إقرارها وحمايتها؟ وما هي مسؤولية الأفراد والجماعات في الدفاع عنها حينما تتجرأ السلطات في انتهاكها والتعدي عليها؟ وكيف تمكن الحسين بن علي "عليه السلام" في العصور الوسطى أن يتعرف على تلك الحقوق، وأن يدافع عنها أمام سلطان جائر، لا يؤمن بالله ولا بكرامة إنسان، ولا يقر بحق ولا يعترف بحرية؟ وما هي الخيارات التي يطرحها هذا القائد الفذ لأجل الحفاظ على حقوقنا وصيانتها؟
تُعرف الأمم المتحدة حقوق الإنسان أنها "حقوق متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو مكان إقامتهم، أو نوع جنسهم، أو أصلهم الوطني أو العرقي، أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر". حيث يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق.
وتتصف حقوق الإنسان أنها حقوق عالمية غير قابلة للتجزئة ومترابطة ومتآزرة، سواء كانت حقوقا مدنية وسياسية، مثل الحق في الحياة، وفي المساواة أمام القانون وفي حرية التعبير؛ أو اقتصادية واجتماعية وثقافية، مثل الحق في العمل والضمان الاجتماعي والتعليم؛ أو حقوقا جماعية مثل الحق في التنمية وفي تقرير المصير.
وبذلك، تبين الأمم المتحدة "أن شأن تحسين أحد الحقوق أن ييسر الارتقاء بالحقوق الأخرى. وبالمثل، فإن الحرمان من أحد الحقوق يؤثر بشكل سلبي على الحقوق الأخرى. لذا، يرتب القانون الدولي لحقوق الإنسان التزامات على الحكومات بالعمل بطرق معينة أو الامتناع عن أعمال معينة، من أجل تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بالأفراد أو الجماعات" بصرف النظر عن نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية.
في الواقع أن الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية هو نوع من أنواع العدل الإنساني، الذي هو إعطاء كل شيء حقه. ولأهمية العدل ومنزلته، بعث الله رسله وأنزل كتبه، لنشره بين الأنام، قال تعالى: ( لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) والقسط: العدل، وهو قوام الدنيا والدين، وسبب صلاح المجتمعات، ومن أهم دعائم السعادة، التي ينشدها البشر في حياتهم، أن يطمئنوا على حقوقهم وممتلكاتهم، وإلاّ فلا يعرف على وجه الأرض شيء أبعث للشقاء والدّمار، وأنفى للهدوء والاستقرار بين الأفراد والجماعات، من سلب الحقوق.
وأن انتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وتجاوزها هو نوع من أنواع الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فالظلم أصله الجور ومجاوزة الحد بما فيها التعدي على حقوق الآخرين. فبالظلم تنتهك الحقوق، وتسفك الدماء، ويظلم الضعفاء، وتسلب الحريات، وتهتك الأعراض والأموال والأنفس.
وهو من أخطر الآفات الاجتماعية والسياسية التي تهدد أي مجتمع بالزوال والانهيار والدمار، وانعدام الأمن والسلام الاجتماعي، وغياب الاستقرار السياسي، ومضاعفة المشاكل وتراكمها. وما ساد الظلم الاجتماعي في مجتمع من المجتمعات الإنسانية إلا أدى إلى تدمير ذلك المجتمع حضارياً، كما أشار القرآن المجيد إلى ذلك في قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
وتلك المظالم التي يقترفها العباد بحق بعضهم، من المواضيع الحساسة التي تُعدّ باعثاً وسبباً لإرسال الأنبياء من أجل إقامة العدل والإصلاح بين الناس، ومن أجل مواجهة الظلم بكل صوره، ظلم الحاكم للمحكومين (فرد لأمة)، وظلم امة لأمة، وظلم الأمة للفرد، وفقاً لسنة التدافع {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ورغم المبادئ الإنسانية السامية التي شرعها الإسلام للمسلمين خاصة، وللعالمين عامة من أجل إنسانية الإنسان وبلوغ درجات الكمال المنشودة، إلا أن الحكومات الإسلامية المتعاقبة على المجتمع الإسلامي -وللأسف- لم تكن تؤمن بها ولم تطبقها إلا ما يخدم وجودها ومصالحها.
فقد كان المجتمع الإسلامي - في عهد الأمويين- يرزح تحت وطأة الظلم والاضطهاد الذي عبرت عنه مواقف العديد من المصلحين المؤمنين آنذاك من الذين قاوموا ظلم معاوية وأنصاره، ولكن تلك المقاومة لم تأخذ مداها ولم تضع حداً لتصرفات الحاكمين وجورهم، بل سرعان ما كانت تموت في مهدها عندما يلاحق أولئك الجزارون طلائعها بقتلهم أو زجهم في السجون والمعتقلات بدون أن يحرك المجتمع ساكنا.
لذلك، عندما رأى الإمام الحسين (ع) أن يزيد والحكم الأموي مستمرون في إتباع سياسة الظلم والجور والطغيان، ومصرون على غياب العدل والعدالة الاجتماعية، وانتشار المفاسد والمظالم، أعلن النهضة الكبرى ضد الظلم والطغيان والظالمين، ورفع شعار الإصلاح والعدل والعدالة الاجتماعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يرى الإمام السيد محمد الشيرازي، إن الحسين ثار من أجل الشعب المسلم، لقد ثار على يزيد باعتباره ممثلا للحكم الأموي. هذا الحكم الذي جوع الشعب المسلم، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات، والرشا وشراء الضمائر، وقمع الحركات التحررية. هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهددهم بالإفناء، ومزق وحدة المسلمين العرب وبعث بينهم العداوة والبغضاء. هذا الحكم الذي شرد ذوي العقيدة السياسية التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي وقتلهم تحت كل حجر ومدر، وقطع عنهم الأرزاق وصادر أموالهم، هذا الحكم الذي شجع القبلية على حساب الكيان الاجتماعي للأمة المسلمة. هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة وعن طريق غير مباشر تارة أخرى على تفويض الحس الإنساني في الشعب، وقتل كل نزعة إلى التحرر بواسطة التخدير الديني الكاذب كل هذا الانحطاط ثار عليه الحسين، وها هو يقول لأخيه محمد بن الحنفية في وصية له: «إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين».
إن التاريخ يقول إن الإمام الحسين "ع" برع أيما براعة في الدفاع عن كرامة الناس وحقوقهم وحياتهم، ليس هو وحده فقط، فمنهجه وفر لإتباعه -من بعده- فرصة أتاحت لهم في كل زمان ومكان أن يرفضوا الظلم والاستبداد والعدوان، وأن يطالبوا بحكم القانون والعدل والحقوق، ومن الوسائل التي استخدمها الإمام الحسين" في الدفاع عن حقوق مجتمعه هي:
1. الخروج من دائرة الحاكم الظالم:
قرر الإمام الحسين "ع" هجرة مدينته إلى مدينة أخرى، بعدما خيرته السلطات الأموية الجائرة بين خيارين (ألا وأن الدعي أبن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة) السلة: هي مواجهة السيف والقتل، والذلة: هي الإذلال والخضوع لحكم يزيد، لذلك قال الإمام الحسين موضحاً خياره: (وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)، يعني أن الإمام الحسين لا يمكن أن يقبل بالإذلال، وأنه يؤثر القتال ومواجهة الظالمين والشهادة في سبيل الله تعالى على أن يقبل بالذلة والسلامة تحت ظل اللئام. حيث حث الإسلام إتباعه ممن يعيشون في المجتمعات الظالمة التي تقيد حريتهم وتسلب حقوقهم وتستضعفهم، ولا يستطيعون ان يغيروا او يبدلوا، على الهجرة إلى أماكن ومجتمعات تكون فيها فرصة الحرية أكبر، ويكون مجالهم فيها لنيل حقوقهم أوسع. فالهجرة -في الإسلام- موقف يمثل رفض الظلم، ومواجهة الظالم بالخروج من دائرته ومجال تأثيره وسطوته.
2. إعلان المظلومية والمطالبة بالحقوق:
أثناء هجرته، أعلن الإمام الحسين "ع" مظلوميته ومظلومية مجتمعه الإسلامي (ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه) فلقد جعل الله للمظلوم حقاً في التعبير عن مظلوميته، والمطالبة بحقوقه، وكشف الظلم اللاحق به.
3. المواجهة والمقاومة:
لقد توجّ الإمام الحسين عليه السلام حياته السياسية بصنع حدث كبير هزّ الضمائر وآل إلى تحولات عظيمة على صعيدي الفكر والواقع الاجتماعي فكانت الثورة هي ذلك الحدث الذي انطلق لمواجهة الانحراف الحكومي المتمثّل وقتئذٍ بيزيد بن معاوية. حيث أعلن الثورة على الظالمين، طالباً للإصلاح في أمته، ضارباً أروع الأمثلة للتضحية من أجل المبادئ، وبذلك أسس الإمام الحسين وعياً سياسياً جديداً يأبى المصالحة مع الحاكم المنحرف، ويأبى السكوت على انحرافه، أو الركون إليه مصداقاً لقوله تعالى (ولا تركَنْوا إلى الّذينَ ظَلَمْوا فَتَمَسْكُم النّار). وقد استقر الاعتراف بحقِّ المقاومة في فقه القانون العام. فيقول العميد هوريو: "إن حقَّ المقاومة ليس إلا استدعاءً لحقٍّ قديم في الحرية، يعود ليؤكد حقَّ المواطنين في الدفاع الشرعي ضد سوء استخدام السلطة." ويقول العميد جني: "إن حقَّ المقاومة هو الضمان الأعلى للعدالة وسيادة القانون."
...................................................
اضف تعليق