ما يزال المؤرخون وايضاً من يطالع ويدرس التاريخ بهدف العبرة، يقفون بتأمّل عند اللحظة التي تقف فيها قافلة الامام الحسين، عليه السلام، أمام سرية الخيالة التابعة لجيش ابن سعد، بقيادة الحر بن يزيد الرياحي.
الزمان؛ وقت الظهيرة، مع وجود توقعات بحصول المواجهة العسكرية، لسبب واحد أعطاه الحر بنفسه للإمام، عندما جعجع به بعيداً عن ماء الفرات تنفيذاً للأوامر الأموية، بما يعني ممارسة الضغط وسط صحراء ملتهبة، مع ذلك؛ يشهد التاريخ بذهول، كما تشهد الاجيال، الموقف النبيل بإرواء الجنود ، وكانوا حسب المصادر؛ حوالي ألف فارس، فلم يبق جندي من جيش ابن سعد، إلا وشرب من الماء الذي قدمه لهم الإمام الحسين واصحابه، كما تؤكد الروايات أن الامام، لم يكتف بذلك، إنما أمر بأن "رشفوا الخيل ترشيفاً"!.
كيف يمكن لأي باحث أن يوفق بين هذا العمل، لاسيما وأنه يتعلق بمادة حيوية وحساسة، مثل الماء، وبين احتمالات التصعيد العسكري التي كانت تلوح في الأفق؟ إلا أن نفتح الرسالة التي وجهها الإمام الحسين، عليه السلام، لهذا النفر من الجُند، ولآخرين من أقرانهم، إذ ربما نقل هذا النفر ما حصل لهم مع الإمام، بعد أن عسكر جيش ابن سعد في كربلاء، فالقافلة المتجهة نحو الكوفة، لم تحمل راية الحرب طمعاً بالحكم، وإنما راية السلام والأمان ليعيش أهل الكوفة وسائر ابناء الامة الاستقرار والحرية والعدل، وايضاً القيم التي رأوا أنها تتحقق بوجود الامام الحسين بينهم، لذا كانت قصة الرسائل والعهود التي كتبها كبار الكوفة يطلبون فيها من الامام أن يأخذ بزمام الامور في الكوفة.
بيد أن المشكلة بدأت عندما سيطر النهج العدواني – الأموي، على ذهنية أهل الكوفة بشكل عام، من أبسط انسان الى أكبر فقيه ومحدث وشخصية اجتماعية، فتحولوا بمعظمهم – إن لم نقل جميعهم- من مؤمنين بحقانية الامام الحسين، عليه السلام، الى مؤمنين بقوة السلاح والعنف لتحقيق ما يريدون في الحياة، وهو ما روّج له الأمويون خلال السنوات التي سبقت واقعة كربلاء.
الأمويين وجذور العنف والقسوة
إن الحرب الساخنة والدامية لم تقع، إلا بعد أن حسم الامام الحسين، عليه السلام، الحرب الباردة مع المغرر بهم من أهل الكوفة، وإبلاغهم أنه لم يأت محارباً من أجل الحكم، لذا جاءت احتجاجاته المفحمة بأن يفرجوا له الطريق للعودة الى حيث جاء، إن كرهوا وجوده في الكوفة، بيد إن القوم أصروا على الحرب والقتال بذريعة أخذ البيعة ليزيد، حتى أن الامام، عليه السلام، بلغ حدّاً في الحرب الكلامية المفحمة أن جردهم من كل أعذارهم المنطقية لقتاله، بعد سرد سلسلة من المناقب والخصائص له بين سائر الخلق أجميعن، فجاء جواب قادة الجيش الأموي على سؤال الامام عن السبب الحقيقي لقتاله، فقالوا بأجمعهم: "نقاتلك بغضاً لأبيك"!
هذه الخصال العدوانية لم تكن لتتجذر في نفوس هؤلاء، لولا التنمية المستدامة من لدن المنظرين الأوائل للحزب الأموي الذي شكل تنظيمه مباشرة بعد وفاة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما بدأوا التحرك بسرعة داخل نظام الدولة الاسلامية لاستعادة قوتهم العسكرية التي فقدوها بعد انتصار الاسلام وفتح مكّة، واتبعوا في سبيل ذلك النفاق السياسي والازدواجية والوصولية، بل تقول المصادر التاريخية إن بني عبد الدار كانوا يقودون القرشيين في كل الحروب ايام الجاهلية، كونهم يشكلون ما يشبه "وزارة الدفاع" في قبيلة قريش.
وبعد سيطرتهم الكاملة على الشام، وبعد التخلّص من عمر ثم من عثمان فيما بعد، أكمل الأمويين بناء قاعدتهم العسكرية بتخطيط مسبق، حيث تؤكد المصادر أنهم اعتمدوا على "الشاميين المتمرسين في الحكم والحضارة"، لذا نجد أن معاوية أغدق على المحاربين القدامى ومحترفي القتال وحتى المرتزقة من بلاد أخرى لتشكيل قوة عسكرية تعتقد بطاعة الأوامر قبل أي شيء آخر، وتفعل كل شيء من أجل حياة القائد.
وعندما نتحدث عن جيش الشام، فانه يعني الحديث عن جزء من الجيش الاسلامي، والجزء الآخر هو جيش الكوفة، التي كانت تمثل حامية استراتيجية، لنتصور كيف يكون سلوك هذا الجيش خلال عشر سنوات من وجود معاوية في السلطة بعد استشهاد الامام الحسن، عليه السلام؟
إن راية الحرب والقتال المتجذرة في الحزب الأموي لم تصطدم لأول مرة مع راية السلام التي رفعها الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء، إنما اصطدمت، ربما؛ أول مرة لدى فتح مكّة، عندما حمل راية الفتح، خالد بن الوليد، فراح يردد: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحُرمة"، فبلغ الخبر، النبي الأكرم، فسارع الى استبداله بعلي بن أبي طالب الذي رفع راية "اليوم يوم المرحمة، اليوم تُصان الحرمة".
فالراية التي قادت الجيش الاسلامي لفتح مكّة، آخر حصون الشرك، كانت راية السلام وليس الانتقام، كما لمس ذلك جيداً المجتمع المكّي، وشخص أبو سفيان ومعه ابنه معاوية و كبار بين أمية وبين مروان وآخرين، فلم يكن أمامهم سوى اللجوء الى القبول بالأمر الواقع نفاقاً، وما أن استرجعوا الحكم على يد معاوية، حتى استخدموا كل اساليب العنف والقسوة في سياستهم وتعاملهم مع الخصوم، وبالدرجة الاولى؛ أهل البيت، عليهم السلام، واتباعهم.
راية السلام.. راية الانتصار
في ظل المعطيات التاريخية، رب سائل عما جنته الأمة من راية السلام أمام راية الحرب والقتال التي حققت انتصارات عسكرية كانت القاعدة الاساس لنظام سياسي قاسي وجائر، جر الويلات والمعاناة الرهيبة لأبناء الأمة...؟.
الاجابة عن هذا السؤال التاريخي المتجدد، يبدو واضحاً بين المكاسب الحضارية للنهضة الحسينية التي يقر بها اليوم كل منصف في العالم، سواءً كل مسلماً او غير مسلم، وإلا ما الذي جعل قيم انسانية واخلاقية تنتصر يوم عاشوراء لولا هذه الرسالة الحضارية التي واجهت بقوة وحزم رسالة الجاهلية التي حملت وما تزال؛ العنف والذبح والترويع والانتقام البشع؟ وهو ما كشف عنه مبكراً أمير المؤمنين، عليه السلام، في إحدى خطبه واصفاً ثقافة المجتمع الجاهلي بأنه "شعارهم الخوف ودثارهم السيف".
هذه الرسالة وهذه الراية ظلت خفاقة – وهي ما تزال- في عهد الأئمة المعصومين من بعد واقعة كربلاء، حيث انطلقت الثورات والانتفاضات الشيعية ضد الحكم الأموي ومن بعده الحكم العباسي، مستلهمين روح الثورة ضد الانحراف والظلم والطغيان من النهضة الحسينية، فكان موقف الأئمة، عليهم السلام، من هذا الحراك الجماهيري في هذا البلد او ذاك، هو التسديد نحو الهدف الحضاري الرامي لصياغة الانسان المتكامل والناجح في الحياة، وهو هدف جميع الرسالات الإلهية، وهذا الهدف السامي، كان يمثل المعيار الذي يكشف مدى مصداقية أي تحرك عسكري او سياسي ضد الانظمة الحاكمة آنذاك.
ومن أجل ذلك، أشّر بعض المفكرين والباحثين على المائز بين الحركة العلوية والحركة العباسية في نهايات الحكم الأموي، فالاولى كانت ترمي الى تطبيق الاسلام، بمعنى تحكيم النظام الاسلامي المتكامل لجميع نواحي الحياة؛ الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية، مع تحكيم العدل وقيم الحق والفضيلة، بينما كان العباسيون؛ منذ البداية، يفكرون بالسلطة قبل أي شيء آخر.
ولعل شدة الصدام بين الاثنين، كان بسبب وجود الحراكين في وقت واحد لتحقيق هدف واحد، وهو القضاء على الدولة الأموية، فما كان من العباسيين إلا أن يكشروا عن أنيابهم ويظهروا كوامنهم وحنينهم الى قيم الجاهلية، وهو أكثر ما كان يحذر منه الأئمة المعصومين، عليهم السلام، لاسيما الامام الصادق، عليه السلام.
وإذن؛ فان القيم والمبادئ التي تبحث عنها الانسانية اليوم، ونعتقد جزماً أن النهضة الحسينية مرآة شفافة لها، لن تلامس أرض الواقع برسالة العنف والابتزاز والترويع وسائر اشكال الارهاب، إنما برسالة السلام والمحبة التي تفضح، قبل أن تقتل، الطرف المقابل، وتكشف للعالم، بل حتى لاتباعه، زيف ادعاءاته وخواء فكره وبطلان عقيدته.
اضف تعليق