سنة بعد أخرى، تتزايد أعداد الزائرين ليوم أربعين الامام الحسين، عليه السلام، من كل أنحاء العالم، وتزداد معها مختلف أشكال الخدمات والدعم والاسناد لتغطية حاجات الملايين الزاحفة سيراً على الاقدام، من داخل العراق وخارجه، علماً أن كربلاء المقدسة، تشهد خلال السنة، مواسم زيارات متعددة، لعل أبرزها زيارة النصف من شعبان وزيارة يوم عرفة، وتشهد المدينة توافد الملايين ايضاً، بيد أن المشهد الاربعيني يختلف تماماً عن سائر المشاهد، حيث تقفز روح المنافسة بقوة لتضفي سمة بارزة على هذه الزيارة. حتى لا نكاد نلحظ حركة او نشاط او قول او فعل، إلا وفيه "ديناميكية المنافسة" إن صحّ التعبير.
ولا حاجة لنا لذكر أمثلة، ونحن نواكب – مع القارئ الكريم - أيام هذه الزيارة المليونية، بيد أن الاقدام التي تحثّ الخُطى، من داخل وخارج العراق، لصغير وكبير، والموائد العامرة على طول المسافة بين أقصى الجنوب العراقي وحتى كربلاء المقدسة، وما يتخللها من صور رائعة للعطاء والتضحية والتفاني والايثار، جديرة بأن تكون كلها، لوحة متكاملة تعبر عن "التنافس" بأبرز مصاديقه وأنصع دلالاته.
هذا المفهوم الانساني، موجود في جوانب مختلفة من حياتنا، بل نعيشه دائماً كونه التعبير الأدق عن الحالة الديناميكية في حياة الانسان، بيد أن الفارق بين ما موجود خلال زيارة الاربعين، وما نشهده دائماً في ميدان العمل والدراسة وغيرها، أن الحالة الاولى تخرج الانسان من دائرة الذات وحبّ الأنا والسعي الدائم لتحقيق ما يصبو اليه هو، الى حيث تحقيق ما يفيد الآخرين.
وبما أن المتنافسين في هذا الطريق، يشعرون بالفخر والارتياح النفسي، لأنهم إنما يخدمون زوار الامام الحسين، عليه السلام، فان هذا النوع الخاص من التنافس يفتح آفاقاً واسعة تستدعي تسليط الضوء على مسائل عديدة تظهر في الطريق:
أولاً: الأصالة في الخُلق
صحيح، أننا نضفي مفهوم الأصالة دائماً على صفة الكرم لدى الانسان، وأنه يتحلّى بها نظراً لتأصّل هذه الصفة في نفسه، كفرد أولاً، وفي بيئته كمجتمع ثانياً. بيد أن الأصالة يمكن ان تتجسد في الاخلاق والآداب العامة ايضاً، فيمكن ملاحظة التسامح والايثار والتكافل والتعايش وغيرها بين الزائرين، سواءً؛ خلال مسيرة المشي، أو خلال تواجدهم في المدينة المقدسة، علماً أن كربلاء المقدسة؛ هذه المدينة الصغيرة، تستضيف أعداد هائلة من الزائرين، ومعظمهم – إن لم يكن جميعهم- يقيمون في المناطق المحيطة بالحرمين الشريفين، وبعض المناطق القريبة داخل المدينة. مع ذلك لم تسجل أي حادثة احتكاك او شجار او خلاف بين شخص وآخر.
إن مجرد إطلاق كلمة "خدمة" في هذا الطريق، يؤكد لنا حضور الأصالة الاخلاقية في حالة التنافس، فالجميع يريد ان يسبق الآخر في "الخدمة" للزائرين، من خلال تقديم الطعام والشراب والمبيت وغيرها، كون هذا العمل (الخدمة) من دلالات التواضع، وهي محببة بين الاخوة المؤمنين طيلة أيام السنة، بيد أنها تتخذ شكلاً وطعماً خاصاً هذه الايام.
ولابد من الاشارة الى ما تركته الاصالة الاخلاقية لدى ابناء الشعب العراقي، على عزيمة ومعنويات الزائرين من مختلف انحاء العالم، والمثال الأبرز في ذلك، ما شهدته كربلاء المقدسة، العام الماضي من توافد الملايين من الزائرين من ايران والخليج ولبنان وبلاد مختلفة من العالم، بما لم يسبق له مثيل في تاريخ هذه المدينة. وقد سجلت شهادات إشادة من الزائرين بحسن الضيافة والتعامل الحسن الذي لاقوه خلال تواجدهم في كربلاء وفي العراق بشكل عام.
ثانياً: التطوير
وهذه سمة حضارية تضاف الى تميّز الشعائر الحسينية وكونها متفاعلة مع الزمن وقابلة للتطوير والتحديث لما فيه الفائدة للزائرين، وبما أن المشاة على الاقدام، وحتى المقيمين خلال هذه الزيارة بحاجة الى وسائل متعددة، غير الطعام والمبيت والشراب، مثل الاتصالات والخدمات الصحية، فان التنافس هنا يبرز بقوة، ليظهر في مبادرات جميلة، مثل توفير الاتصالات عبر النت على الطريق الى كربلاء المقدسة، هذا الى جانب التطوير والتحديث في طريقة تقديم وجبات الطعام والشراب.
والتطوير هنا، يأخذ مديات واسعة، فهنالك وسائل الاعلام المتعددة التي تتسابق على نقل وقائع الزيارة، سواءً بالبث الحيّ المباشر، أو بإعداد برامج حوارية مسجلة، او من خلال الضخّ في مواقع النت، بمختلف المواد الاعلامية والثقافية التي تعكس الصورة كاملة الى العالم، وتكون هذه المواقع بمنزلة المرآة بين العالم وبين الزيارة الاربعينية، وهذا ما نلاحظ التنافس عليه، ولو بدرجات متفاوتة.
ثالثاً: التنافس غير المحموم
لطالما نعاني من هذا النوع من التنافس في مجالات عديدة بالحياة، فالبعض يريد دائماً الوصول الى مبتغاه بأي وسيلة كانت وبأي ثمن، لذا يكون مسعاه محموماً وغير سليم، بيد أن التنافس في الزيارة الاربعينية، ورغم وجود مئات المواكب الخدمية ومواكب العزاء وفرق الطبابة والنظافة وغيرها، نجد أن التنافس بين جميع هذه الكيانات يتّسم بالشرف والنبل، لأنها لا تنظر الى حيث تعمل ضمن الدائرة الجغرافية الضيقة، إنما تتطلّع الى حيث اهداف النهضة الحسينية، فالجميع إنما يتسابق ويخدم ويقدم، ليسجل اسمه في ديوان الامام الحسين، عليه السلام، وانه يجسّد مفهوماً وقيمة واحدة او اكثر من المنظومة الحسينية المتكاملة.
إن التنافس الشريف خلال الزيارة الاربعينية من شأنه ان يقدم لنا الكثير في مسيرة التغيير والاصلاح والتنمية والتطوير في مجالات شتى، فنحن أمام درس كبير وبليغ في صناعة أفضل السبل لتحقيق ما نريد، يكفي أن نقارن بين هذا التنافس الموجود حالياً في هذه الزيارة، وبين التنافس الموجود في الدوائر الحكومية والاسواق والمصانع والجامعات وغيرها... ثم لنلاحظ مآل هذا التنافس الثاني وما قدمه لاصحابه، ومن ثم ما أسقطه من نتائج كارثية ومأساوية على ابناء الشعب العراقي بأسره. ولا أدلّ من الفساد والمحسوبية والغش والتزييف وغيرها من المفردات السيئة التي نرجو ان تزول شيئاً فشيئاً من واقع المجتمع العراقي ببركة التنافس في طريق المشي الى كربلاء.
اضف تعليق