عقيدتنا بالإمام الحسين وبأهدافه العظيمة جديرة بأن تصبغ حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا طوال ايام السنة، لأن الجهل والتضليل لم يقتل أهل الكوفة والشام وسائر افراد الأمة قبل الف و اربعمائة عام فقط، بل يُعد فايروساً يحصد ضعيفي المناعة ثقافياً وفكرياً طوال العقود الماضية...
ما هي هدية سفرك؟! بهذا السؤال يتم استقبال القادم من رحلة خارج بلده او حتى مدينته ليتحف أهله وأصدقائه بهدايا رمزية تعبر عن هوية وثقافة ذلك البلد، مثل المقتنيات المنزلية، او الأطعمة، او الاكسسوارات.
زيارة الأربعين لمرقد الأمام الحسين، عليه السلام، ذات الخصوصية في كل شيء، مليئة بالمشاهد والمواقف والحالات تمثل انطباعاً نفسياً، كما تصلح لأن تكون صورة كبيرة ذات دلالات عميقة.
العلماء يؤكدون دائماً على ضرورة ان يأخذ الزائر شيئاً من زيارة مرقد الأمام الحسين، لنفسه وأهله، ليس في هذه الزيارة فقط، وإنما في سائر الزيارات المليونية، بل وكل زيارة، لاسيما زيارات ليلة الجمعة، لأن الامام الحسين اختزل قيم الأخلاق، والدين، والإنسانية، وأي انسان واعي يتحسس حاجته الى هذه القيم في تعامله اليومي مع افراد عائلته واقربائه و اصدقائه.
أخلاق الخدمة
كتب الكثير عن ظاهرة الخدمة في المواكب الحسينية، والحماس المتصاعد بشكل مذهل، لاسيما بين اوساط الشباب لتقديم مختلف اشكال الخدمة لزائري الامام الحسين على الطرق الخارجية للزائرين المشاة، او في داخل المدن، وايضاً مدينة كربلاء المقدسة، وليس خافياً روحية العطاء والتضحية الملهمة لهؤلاء خلال أيام زيارة الاربعين.
هذه الروحية المستمد من ثقافة الامام الحسين، وثقافة اهل البيت، عليهم السلام، تتجاوز الزمان والمكان، فهي مثل أي خصلة أخلاقية ترافق الانسان وتنمو طيلة أيام حياته، فالمعروف بين الناس أن الصادق، يكون صادقاً طيلة ايام حياته، ويُعرف بهذه الصفة بين أهله واصدقائه، وكذا صفات الأمانة والمروءة والعفو والتواضع، فكما أن أصحاب الامام الحسين كانوا يوم عاشوراء، صابرين، وصادقين، وشجعان، لا يخافون في الله لومة لائم، فانهم كانوا قبل هذا طيلة حياتهم بهذه الصفات، او كانوا يحملونها بذوراً في ذواتهم، عملوا على تنميتها لتصل الى النضوج والتكامل يوم يحتاجونها في اللحظة الحاسمة، كما هو الحال عند الحر الرياحي، و زهير بن القين.
وعندما نسلط الضوء على أخلاق الخدمة هذه الايام، لأنها العلامة الفارقة للشباب المندمج مع المناسبة الحسينية، مما يدعوهم لأن يصطحبوا هذه الصفة والثقافة الحسينية الى ديارهم والى حياتهم العادية فيما بعد انتهاء شهر صفر المظفر، وعودة الناس الى أجواء العمل والدراسة، وما أحوجنا اليوم الى ثقافة العطاء و اسداء الخدمة الى الآخرين، انطلاقاً من البيت الصغير والعائلة، ومن ثم المنطقة السكنية ومروراً بمحيط العمل والدراسة، والعلاقات الاجتماعية، أبسط الامثلة؛ النظافة في المناطق السكنية وضرورة تجميعها في مكان مخصص وعدم حرقها واستبدال الرائحة الكريهة بغازات سامّة، وايضاً؛ و مدّ يد العون الى محدودي الدخل ليتمكنوا من الدراسة والتعليم والعلاج والزواج، وهو ما يقدر عليه الطالب البسيط في المدرسة بمساعدة زميله غير القادر على تسديد تكاليف الدروس الخصوصية، فضلاً عن الكبار والميسورين، والامثلة كثيرة في حياتنا.
نعم للاندماج لا للفوارق
من أروع ما قدمته النهضة الحسينية لنا وللعالم أجمع؛ المساواة ونبذ الفوارق العرقية والقومية والطبقية ضمن الامة الواحدة في اطار الدين الاسلامي، وعلى صعيد العالم أجمع في إطار المفاهيم الانسانية السامية التي ثبتها الامام الحسين يوم عاشوراء وأبرزها؛ الحرية.
وإلا ما الذي يدفع أهالي المدن الجنوبية في العراق لاستقبال القادم من باكستان وافغانستان واذربيجان، وحتى من الصين، شرقاً، والقادمين من البلاد الاوربية غرباً والبلاد الافريقية، وحتى من القارة الاميركية، يقدمون لهم بكل شوق وحماس كل ما يحتاجونه من طعام وشراب ومسكن وخدمات أذهلت هؤلاء جميعاً؟
انه الهمّ الأكبر في العالم بأسره؛ الحرية والكرامة المنتهكتان من قبل الانظمة الديكتاتورية الحاكمة، وفي الدرجة الثانية من قبل اطراف اخرى داخل المجتمع.
حدثني شاب يعمل في موكب للبلاد الافريقية في كربلاء المقدسة عن أبرز انطباعاته وهو يشارك سائر المواكب الخدمية ايام زيارة الأربعين فأشار الى الاندماج المذهل بين زائري الامام الحسين القادمين من مختلف انحاء العالم، فلا يجد الافريقي حرجاً وهو يقدم الطعام والماء –مثلاً- الى الزائرين القادمين من ايران وباكستان، بل وحتى من أهل العراق انفسهم، بل يجد الاحتفاء والترحيب به، والاشادة بجهوده كونه قادمٌ من تنزانيا، الى جانب اصدقاء له قادمون من كينيا ومن مدغشقر.
إنها اجواء تشبه الى حد بعيد أجواء حج بيت الله الحرام، حيث يتجمهر الآلاف حول الكعبة المشرفة من مختلف انحاء العالم، فتجد الأسود مع الابيض، ومن يتكلم اللغة السواحلية الافريقية، مع الذي يتكلم الاردو الباكستانية، الى جانب العربية والفارسية والتركية والانجيليزية، الجميع في مكان واحد، لا يشعر أحد بأن ثمة فارق او مائز بينه وبين الآخرين، لأن الجميع يفدون على رب كريم غفور، وهم يؤدون فريضة عبادية تشمل الجميع.
فاذا كانت النهضة الحسينية، وتحديداً زيارة الاربعين تذيب الفوارق الطبقية والعرقية والقومية وتصهرها في بوتقة الحب والايمان، فمن المفترض أن يقل وجود هذه الفوارق في حياتنا –إن لم نقل ذوبانها بشكل كامل- بعد انتهاء هذه المراسيم، والمسألة لا تتعلق بالشعوب المتباعدين، بقدر ما يخصّ بأبناء البلد الواحد والمدينة الواحدة التي تنتشر فيها فايروسات الفوارق بين افراد المجتمع، بين عالم وجاهل، وحضري او بدوي، و غني او فقير، وصاحب سلطة ومنصب ومواطن عادي، ومما قاله الاخ القادم من تنزانيا في حوار دار معه بأنه سوف ينقل هذا الانطباع الجميل الى أهله وابناء بلده، وكيف أن زائري الامام الحسين في كربلاء المقدسة لا ينظرون الى القومية واللون واللغة، بقدر ما ينظرون الى الامام الحسين، عليه السلام، ومحاولة تعزيز العلاقة معه، فاذا كان هذا التنزاني بهذه الروحية، فكيف يجب ان نكون نحن أهل العراق عندما نعود الى مدننا، وهكذا سائر الاخوة القادمين من سائر البلاد؟
العقيدة والايمان
علاقة الزائرين المتدفقين بالملايين مع الامام الحسين، علاقة معنوية وليس مادية، فهم لا يأخذون شيئاً مادياً منه، عليه السلام، حتى وإن كانوا يحملون الهموم والحاجات الملحّة، من مرض عضال، او عقم، او حرمان من السكن، او من الزواج، فهم يزورونه هذه الايام ثم يعودون الى ديارهم والى همومهم ومشاكلهم، مع ذلك يشعرون أنهم حققوا أمنية عظيمة، لا تقل شوقاً مما يطلبونه، لأنهم يؤمنون أنهم يقصدون إماماً لا يأخذون منه الشفاء وقضاء الحوائج فقط، وإنما يلهمهم البصيرة في حياتهم ليعيشوا سعداء وإن كانوا فقراء، او يفتقرون لما يتصورون أنه من عوامل سعادتهم مثل المال.
ولذا نجد مصاديق زيارة الأربعين على لسان الامام الصادق بحق جدّه الإمام الحسين، و أهداف نهضته "ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة" في جمهرة من الزائرين لاسيما الشباب الواعي المتطلع للحصول على اجابات بشأن صياغة السلوك الحسن، وبناء الثقافة الصحيحة وسط التحديات الثقافية والفكرية.
الجهل والضلال، الثنائي المدمر للفرد والمجتمع ولشعوب بأكملها، سلّط عليها الامام الحسين الضوء الكاشف ليبين للأجيال، لاسيما ابناء جيلنا الحاضر بأننا امام مسؤولية خرق حجاب الجهل بالعلم والتعلّم والتعقّل، وفي نفس الوقت محاربة التضليل والخداع القادم من من الواقع الخارجي، متمثلاً بالانظمة الديكتاتورية، و مؤسسات ثقافية واعلامية ودوائر مخابراتية مهمتها خلق واقع كاذب ليعيش فيه الناس بوعود السعادة والرفاهية.
عقيدتنا بالامام الحسين وبأهدافه العظيمة جديرة بأن تصبغ حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا طوال ايام السنة، لأن الجهل والتضليل لم يقتل أهل الكوفة والشام وسائر افراد الأمة قبل الف و اربعمائة عام فقط، بل يُعد فايروساً يحصد ضعيفي المناعة ثقافياً وفكرياً طوال العقود الماضية، ومشكلة هذا الفايروس ماتزال قائمة دون حل جذري لها.
اضف تعليق