ملفات - عاشوراء

عاشوراء ورفض شرعية الحاكم الظالم

عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الحادِية عشَرَة (١٤)

إِنَّ [خِلافةَ] يزيدٍ لم تكُن شرعيَّةً بُكُلِّ المقاييسِ. وإِنَّ قَبول الحسنَينِ (ع) بالوثيقةِ دليلٌ واضحٌ على قبولهِما بالتصدِّي للحكومةِ وتحمُّل مسؤُوليَّة إِدارة شؤُون الأُمَّة في إِطارِ الإِتِّفاقِ السِّياسي المُشارُ إِليهِ. وما الذي يدفعُ الحُسينُ السِّبطِ (ع) للإِلتزامِ بعهدٍ خرقهُ الطَّرَف الثَّاني [مُعاوية] عندما تمكَّنَ من السُّلطةِ...

بناءً على كلِّ ما قدَّمناهُ في الأَجزاءِ الثَّلاثةِ الأَخيرة، نعودُ ونطرحُ السُّؤَال التَّالي؛

 هل أَنَّ عاشوراءَ سياسةٌ وكربلاءَ حكومةٌ والحُسين الشَّهيد (ع) تضحيةٌ من أَجلِ سُلطةِ الحقِّ والعدلِ والحريَّةِ؟!.

 الجوابُ وأَقولهُ بضَرسٍ قاطعٍ؛ نعم، وإِليكُم الأَدلَّة القاطِعة على لسانِ الحُسينِ السِّبط (ع) وهوَ يشرحُ أَهدافَ نهضتهِ وأَسبابَ رفضهِ البيعةَ للطَّاغوتِ وخروجهِ وتركهِ لمدينةِ جدِّهِ رسولَ الله (ص) المدينةُ المُنوَّرة.

 ١/ هو (ع) رفضَ البيعةَ للحاكمِ الظَّالمِ والسُّلطةِ الجائرةِ، والرَّفضُ هُنا مَوقِفٌ سياسيٌّ شرحَ دوافِعهُ في الخطابِ الذي وجَّههُ لوالي يزيد على المدينةِ الوليدُ بن عُتبة بن أَبي سُفيان لمَّا استدعاهُ ليأخُذَ منهُ البيعةَ لطاغيةِ الشَّامِ بقولهِ {إِنَّا أَهلُ بيتِ النبوَّة ومعدِنِ الرِّسالة ومُختلفِ الملائكةِ بِنا فتحَ اللهُ وبِنا يختِمُ، ويزيدٌ رجلٌ فاسِقٌ شارِبٌ للخمرِ قاتِلُ النَّفسَ المُحترمةُ ومثلي لا يبايعُ مِثلَهُ}.

 والبيعةُ بجوهرِها، كما نعرِفُ، سياسةٌ وهي بالمُصطلحِ الحديثِ [التَّصويتُ في الإِنتخاباتِ].

 فعندما يرفضُ الحُسينُ السِّبطُ (ع) منحَ صَوتهِ للحاكمِ الجديدِ إِنَّما يرفضُ منحهِ شرعيَّةِ الحُكمِ والحكُومةِ، وكُلُّ ذلكَ سياسةٌ، وفي نفسِ الوقتِ يمنحُ بالرَّفضِ، شرعيَّةَ الخروجِ على الحاكمِ الظَّالمِ ومُقاطعةِ الحكومةِ الجائرةِ لكُلِّ المظلُومينَ المسحُوقةِ والمسلوبةِ حقُوقهِم.

 كما أَنَّ خطابَ [التَّعريةِ والفضحِ] الذي أَدلى بهِ الحُسين السِّبط (ع) في مجلسِ الوالي هذا عندما أَماطَ اللِّثامَ عن رأيهِ بالحاكمِ الفاسدِ، وأَصحرَ بهِ، أَعني يزيد، دليلٌ واضِحٌ على المُواجهةِ السياسيَّةِ التي قصدَها ضدَّ السُّلطةِ الغاشِمةِ، وبالرَّفضِ والفضحِ قدَّمَ الإِمامُ (ع) البديلَ السِّياسي للحكومةِ سواءً أَكانَ هوَ أَو غيرهِ، وفي الحالتَينِ ثبَّتَ فيهِما الإِمامُ (ع) حقَّهُ في إِختيارِ الحكُومةِ، رافِضاً تعيينِها بالإِكراهِ، وإِلَّا فليسَ من المعقُولِ أَنَّهُ (ع) يرفضُ حاكِماً مِن دونِ أَن يُقدِّمَ البديلُ! ويستهدِفُ السُّلطةَ بخطابهِ النَّاري ثمَّ لا يقصدُ مُواجهتَها لإِسقاطِها وتغييرِها.

 كما أَنَّ قولهُ (ع) في خطابٍ لهُ [وأَنا أَحقُّ مَن غَيَّرَ] دليلٌ على أَنَّهُ قصدَها فلم تكُن زلَّةَ لسانٍ مثلاً أَو مُجرَّد شقشقةٍ لم يقصُدها! أَبداً. 

 وأَكثرُ من هذا قَولُهُ (ع) {نَفسي معَ أَنفُسِكُم وأَهلي معَ أَهليكُم، فلَكُم فيَّ أُسوَةٌ} فهي ليست تنظيراً من فَوقِ بُرجٍ عاجيٍّ وإِنَّما هي قيادةٌ ميدانيَّةٌ.

 وفي النصِّ التَّاريخي التَّالي دليلٌ قاطِعٌ على لرفضِ الامامِ (ع) للبَيعةِ باعتبارِ أَنَّهُ من [ساسةِ العبادِ] كما وردَ في النصِّ؛

 فلقَد لقِيَ مَروان بن الحكَم الإِمامَ الحُسين السِّبط (ع) فقالَ لهُ؛ يا أَبا عبدِ الله إِنِّي لكَ ناصِحٌ فأَطِعني ترشَد، فقالَ (ع)؛ وما ذاكَ؟! قُل حتَّى أَسمع، فقالَ مَروان؛ إِنِّي آمُركَ ببَيعةِ يزيدٍ أَميرِ المُؤمنِينَ فإِنَّهُ خيرٌ لكَ في دينِكَ ودُنياكَ، فقالَ الحُسينُ (ع) {إِنَّا للهِ وإِنَّا إِليهِ راجعُونَ، وعلى الإِسلامِ السَّلامِ إِذ قَد بُلِيتِ الأُمَّةُ براعٍ مثلَ يزيدٍ، ولقد سمِعتُ جدِّي رسولَ الله (ص) يقولُ؛ الخِلافةُ مُحرَّمةٌ على آلِ أَبي سُفيان!}.

 رفضُ البيعةَ، إِذن، مَوقفٌ سياسيُّ قائمٌ على عقيدةِ حُرمةِ الخِلافةِ [الحكُومة] على الشَّجرةِ الخبيثةِ التي حاربَت الرِّسالة والرَّسول (ص) على مدى [٣] أَجيال وهُم [الطُّلقاء] [أُبو سُفيان ومُعاوية ويَزيد] ولذلكَ وردَ لعنهُم في زيارةِ عاشُوراء بالإِسمِ لقطعِ الشكِّ باليقينِ {اللّهُمَّ العَنْ أَبا سُفيانَ وَمُعاوِيَةَ وَيَزِيدَ بْنَ مُعاوِيَةَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ اللَّعْنَةُ أَبَدَ الآبِدِينَ}.

 كذلكَ؛ من الواضحِ فإِنَّ واحدةً من أَهمِّ أَسبابِ رفضِ الحُسين السِّبط (ع) البَيعة للطَّاغيةِ يزيد هو احترامهِ وإِلتزامهِ بالإِتِّفاقِ [السِّياسي] الذي وقَّعهُ أَخوهُ الحَسن السِّبط (ع) معَ الطَّاغية مُعاوية عندما تركَ السُّلطة لهُ، والذي وردَ فيهِ نصٌّ يُؤَكِّد على أَنَّ الخلافةَ [الحكُومةَ] تكونُ للحسنِ (ع) إِذا هلكَ مُعاوية أَو للحُسينِ (ع) إِذا لم يكُن الحسَن (ع) مَوجوداً على قيدِ الحياةِ.

 وفي نصٍّ آخر [وليسَ لمُعاويةَ أَن يعهدَ إِلى أَحدٍ من بعدهِ عهداً، بل يكونُ الأَمرُ مِن بعدهِ شُورى بينَ المُسلمينَ].

وفي الحالتَينِ فإِنَّ [خِلافةَ] يزيدٍ لم تكُن شرعيَّةً بُكُلِّ المقاييسِ.

 وإِنَّ قَبول الحسنَينِ (ع) بالوثيقةِ دليلٌ واضحٌ على قبولهِما بالتصدِّي للحكومةِ وتحمُّل مسؤُوليَّة إِدارة شؤُون الأُمَّة في إِطارِ الإِتِّفاقِ السِّياسي المُشارُ إِليهِ.

 قد يُثارُ تساؤُلٌ؛ وما الذي يدفعُ الحُسينُ السِّبطِ (ع) للإِلتزامِ بعهدٍ خرقهُ الطَّرَف الثَّاني [مُعاوية] عندما تمكَّنَ من السُّلطةِ فخطبَ بالمُسلمينَ قائلاً [أَتراني قاتلتكُم على الصَّلاةِ والزَّكاةِ والحجِّ وقد علِمتُ أَنَّكم تُصلُّونَ وتُزكُّونَ وتحجُّونَ ولكنَّني قاتلتكُم لأَتأَمَّرَ عليكُم وعلى رقابِكُم وقد آتانيَ الله ذلكَ وأَنتُم كارهُونَ.

 إِنَّ كُلَّ مالٍ أَو دمٍ أُصيبَ في هذهِ الفِتنةِ لمطلُولٌ وكُلَّ شرطٍ شرَطتهُ فتحتَ قدَميَّ هاتَينِ].

 وهوَ لم يلتزِم بأَهمِّ نصٍّ في الوثيقةِ وهيَ التي تخصُّ [الأَمنِ المُجتمعي] بقَولِها [وعلى أَنَّ النَّاسَ آمنُونَ حيثُ كانُوا من أَرضِ الله تعالى، في شامهِم وعراقهِم وحجازهِم ويمنهِم، وعلى أَنَّ أَصحابَ عليٍّ وشيعتهِ آمنُونَ على أَنفسهِم وأَموالهِم ونسائهِم وأَولادهِم حيثُ كانُوا، وعلى مُعاويةَ بذلكَ عهدُ الله وميثاقهِ، وأَن لا يبتغي للحَسنِ بنِ عليٍّ ولا لأَخيهِ الحُسين ولا لأَحدٍ من أَهلِ بيتِ رسولِ الله (ص) غائِلةً سرّاً ولا جهراً ولا يُخيفَ أَحداً منهُم في أُفُقٍ من الآفاقِ].

 لم يلتزِم الطَّاغية مُعاوية بكُلِّ ذلكَ فلقد حنثَ باليمينِ علانيةً فبدأَ بحملةٍ واسِعةٍ من عمليَّاتِ الإِغتيالِ والتَّصفياتِ الجسديَّةٍ ضدَّ [شيعةِ عليٍّ] فقتلَ حجر بن عديِّ أَخو كِندة وأَصحابهِ المُصلِّينَ الصَّائمينَ وقتلَ إِبن الحمق صاحِبَ رسُولِ الله (ص) العبدُ الصَّالحِ بعدَ أَن آمنهُ وقتلَ صاحِبُ الحضرميِّينَ الذين كتبَ فيهِم إِبنُ سُميَّةَ أَنَّهُم على دينِ عليٍّ (ع) فكتبَ إِليهِ الطَّاغيةُ الطَّليقُ مُعاوية؛ أَن اقتُل كُلَّ مَن كانَ على دينِ عليٍّ! فقتلهُم ومثَّلَ بهِم بأَمرهِ!.

 إِنَّ التزامِ الحُسينِ السِّبطِ (ع) بالمُعاهدةِ على الرَّغمِ مِن كُلِّ ذلكَ دليلٌ على إِلتزامهِ الدِّيني والأَخلاقي والسِّياسي، وهو الفارق الأَساس الذي يميِّزهُ عن الطَّليق مُعاوية، أَلم يقُل القُرآن الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}؟! وقَولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يصِفُ المائزِ بينهُ وبينَ الطَّليقُ مُعاوية {واللَّه مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي ولَكِنَّه يَغْدُرُ ويَفْجُرُ ولَوْلَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ (ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

 واللَّه مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ ولَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ}.

 وقَولُ الحسَنُ السِّبطِ (ع) {ما كانَ مُعاوية بأَبأَسَ منِّي بأساً ولا أَشدَّ شكيمةً ولا أَمضى عزيمةً، ولكنِّي أَرى غَيرَ ما رأَيتُم}.

 فالهدفُ السَّامي الطَّاهر لا ينالهُ الرِّساليُّونَ إِلَّا بالأَدواتِ والوسائِلِ السَّاميةِ الطَّاهرةِ، وإِلَّا قُل لي بالله عليكَ ما الفرقُ إِذن بينَ الصَّالحِ والطَّالحِ إِذا كانت أَدواتهُما واحدةً ووسائِلهُما وواحدةً؟!.

يتبع...

اضف تعليق