أنا شاب في مقتبل العمر، أفكر في تكوين أسرة، لذلك دائما ما يلفت انتباهي رؤية رجل يمشي مع زوجته وأطفاله، انظر لهم بعمق محاولا استخلاص المعلومات من النظرة الأولى، معتمدا الملاحظة حيناً، والفراسة والاحتمال أحياناً أخرى.
في ذات يوم دخلتُ ضريح الإمام الحسين عليه السلام، كانت هناك أسرة تتكون من -رجل وزوجته، ورضيع تحمله أمه، وصبيّ، وطفله في عمر سبع سنوات- كانت الأسرة مجتمعة وعلامات الود والانسجام واضحة على أفرادها جميعا.
قبل أن أُبعد نظري عنهم، لاحظت أنهم يتفرقون فجأة، وباتجاهات شتى، الرجل اخذ الرضيع من كفيّ امه، وكشف عن نحره ورفعه عاليا واتّجه به نحو الضريح المقدس، كانت رقبته ناصعة البياض، تجذب النظر من بعيد، تلتمع كقطعه من الفضة أمام ضوء الشمس.
المرأة اتجهت باتجاه التل الزينبي وتوقفت هناك، الصبي سار باتجاه الشهداء، أما الطفلة فبقيت في مكانها، تنظر يمينا وشمالا، كأنها تنتظر أحدا غير عائلتها، أخرجتْ أذنيها من تحت الحجاب، بان قرطان ذهبيان لامعان جميلان، مرت الدقائق بسرعة ودهشة......
بدأت بالتلفّت حولها، بان عليها القلق والغربة، إنها تبحث عن شيء ما لا أعرف ما هو؟، ثم بدأت الطفلة بالبكاء...
حاولتُ أن امنع نفسي من الاقتراب، لكنني في النهاية اقتربت منها وقلت لها:
- لا تبكي أيتها الطفلة.
ثم سألتها: أين ذهب أبوك؟.
قالت: أبي ذهب ليواسي الحسين (ع).
سألتها وأنتِ من تنتظرين هنا، قالت: أنتظر الشمر.
فسألتها مستغربا: الشمر!!......
قالت: نعم (وهي تبكي).. وأكملت تقول: إني انتظر الشمر في كل محرم، نأتي للزيارة لعله يمر من هنا ويأخذني مع أطفال الحسين (ع)، أو يشتبه بقرطيّ هاذين ويأخذهما بدلا من قرطيّ السيدة سكيْنة (ع).
أبي اخذ أخي الرضيع ينتظر حرملة، لعلهُ يشتبه في رمية سهمه ويرمي أخي بدلا من عبد الله الرضيع، أخي الأكبر ينتظر جيش عمر ابن سعد لعله يُقتل مع القاسم وينال الشهادة فيواسي الحسن (ع).
أمي ذهبت تواسي السيدة زينب (ع) لعلها تُسبى مع زينب والنساء الهاشميات.
فجأة فتح كلامها بابا من النور أمامي، إني في ضريح الحسين (ع) ولا اشعر بيوم عاشوراء ولا في كربلاء!! بكيتُ بحرقة وحسرة وأسف على نفسي.
حملني كلامها شوقا أن أتخيل أطفال الحسين (ع)، في ضريحه يركضون متلمسين طريق الهروب من جيش عمر ابن سعد، كأنهم شعاع ضوء بين زوار الحسين (ع)، وأصوات صراخهم تعلو في الأرجاء، تصورتُ أن المخيم يحترق وهذه زينب والهاشميات، يهربن من خيمة إلى أخرى، وهنّ ينادين يا كافل! وبطل العلقمي مقطّع الكفوف ولا يجيب.
وهذا الحسين (ع) غريب بين الآلاف، وأصوات الخيول وقرع الطبول..
والإمام الوحيد مستنصرا ولا من ناصر.
أما أنا توقفت عن اللاحياة التي كنت أعيشها للحظة، وأخذتني العواطف، أجهشت بالبكاء طويلا....
وعندما توقفت عن البكاء، لم أرَ الطفلة ولا عائلتها.
اضف تعليق