يحظى العباس ابن امير المؤمنين، عليه السلام، بمكانة عميقة في النفوس، ومحبة شديدة بين الناس قائمة على إيمان راسخ بمكانة هذه الشخصية العظيمة عند الله – تعالى- ، فقد دخل العباس، عليه السلام، القلوب من أوسع ابوابها، بعد أن اختزلت شخصيته سمات البطولة والتضحية والوفاء والإباء... بل ان اسمه اقترن مع اسم سيد الشهداء، الامام الحسين، عليه السلام، فعندما يذكر الامام، في أي بقعة في العالم، لابد وأن تجد العباس، عليه السلام، الى جانبه، بل نجد للعباس مكانة وقدسية خاصة لدى بعض الشعوب، حتى بات القسم باسمه، يمثل دلالة قاطعة على صدق صاحبه، من جانب آخر يمثل القسم به، شرطاً لدفع تهمة الكذب عن صاحبه، لما خبر الناس، منذ القدم، بالعواقب الوخيمة لكل من يتجرأ على الكذب على العباس. عليه السلام. و فوق كل ذلك، فقد تحول العباس، عليه السلام، الى باب واسعة من ابواب الله – تعالى- يهرع اليها المحتاجون والمعسرون في مختلف شؤونهم المتأزمة، وكم توسّل بهذه الشخصية العظيمة تمخضت عن استجابة وقضاء للحاجة، مع استحالة تحقيقها. فهو "باب الحوائج".
السؤال الذي يثور امامنا؛ ما الذي جعل العباس، عليه السلام، يصل الى هذه المنزلة الرفيعة بين الناس والامة، وقبل ذلك عند الله – تعالى-؟
هل هو موقف الوفاء الذي خلّده التاريخ بعدم شربه الماء، دون أخيه وسيده، الإمام الحسين، عليه السلام، عندما قرب الماء بكفه الى فمه؟
ربما يكون هذا الموقف عاملاً مهماً في بناء هذه الصرح الشامخ للعباس، عليه السلام، بيد أنه ليس كل شيء بالحقيقة. علماً اننا دائماً نشكو التاريخ الذي كتم فمه وأغمض عينيه وسد أذنيه عن تفاصيل وحقائق كثيرة تتعلق بالعباس وبأهل البيت، عليهم السلام، بشكل عام. فققبل أن يكون مقاتلاً في معركة الطف، كان العباس، عليه السلام، عالماً وفقيهاً، ذو وعي وبصيرة وأخلاق رفيعة متفرعة من أخلاق أهل البيت، عليهم السلام.
كيف تنشأ البطولة؟
طلب الامام علي، عليه السلام، من أخيه عقيل، أن "انظر لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً". فأشار اليه عقيل، وهو المعروف بين العرب بـ "النسّابة"، الى "فاطمة الكلابية"، وفي رواية تاريخية أخرى بأن يطلب فيها الامام: "غلاماً فارساً ينصر ولدي الحسين بأرض كربلاء". في كل الاحوال؛ من هنا تبدو بذرة الشجاعة والبسالة في ذات العباس، عليه السلام، لكن الذي نبحث عنه؛ التنمّر في ذات الله – تعالى- فهذا الذي رفعه درجات على سائر الشهداء والصديقين، بحيث قال بحقه الامام الصادق: "عوّض الله لعمّي العباس عن يديه بجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء".
ولد العباس، ونشأ وترعرع في بيت أمير المؤمنين، عليه السلام، وكان في البيت؛ الحسن والحسين وزينب، عليهم السلام، فكيف كان الموقف؟
التاريخ الصامت أمام الصرح الشامخ لأهل البيت، عليهم السلام، لا يذكر الكثير من هذه السيرة العطرة والغاية في الاهمية انسانياً وحضارياً، بيد أن الروايات الواصلة الينا، تشير الى أن "أم البنين"، عليها السلام، عكفت على تربية ابنها العباس على أن يتعامل مع الحسن والحسين، عليهما السلام، على أنهما إمامان مفترضا الطاعة، قبل ان يكونا أخوين، فكان، عليه السلام، شديد الاحترام لسبطي رسول الله، صلى الله عليه وآله، ومن سمات هذه العلاقة؛ أن العباس، عليه السلام، كان يخاطب الحسنان دائماً، بصفة "سيدي" وليس "أخي". طبعاً؛ الحديث يتفرع من حيث لا نريد، صوب الشخصية الايمانية العظيمة، لأم البنين، وكيف تدرجت في مراقي العظمة والسمو، بما لديها من بصيرة و عرفان، فأدركت أين هي، والى أين تسير، فاختارت طريقها رغم التحديات التي قلما تحتملها امرأة وأم على مر التاريخ. وفي مرحلة لاحقة قدمت للتاريخ والإنسانية، بطلاً ورمزاً خالداً.
وإذن؛ فان العلاقة بين العباس، والحسين، عليهما السلام، لم تكن عاطفية محضة، كما هي شكل العلاقات بين الاخوان غير الاشقاء، حيث تقتضي أجواء معينة وظروف أن يحن هذا على ذاك، او يعطف هذا الولد على تلك البنت وغير ذلك، بدافع اليتم او المرض او الحاجة وغير ذلك. إنما القضية هنا تختلف تماماً، فهي علاقة ايمانية بامتياز، وإلا؛ ما الذي يدفع بـ "فاطمة الكلابية" عليها السلام، بأن تطلب من أمير المؤمنين، عليه السلام، بعدم تسميتها باسمها أمام ابنائه من الصديقة الزهراء، عليها السلام؟ غير الوعي والبصيرة والمعرفة التي تشكل منها إيمان "أم البنين"، عليها السلام، وهذه هي عين البطولة والقوة في النفس التي أخذها العباس من أمه.
اللحظة التاريخية الفاصلة
على أرض كربلاء، كانت ساحة معركة محتدمة، وقتال عنيف، أبدى فيه أصحاب الامام الحسين، عليه السلام، كل أشكال البطولة والتضحية والإصرار على جهاد أعداء الدين. وكان يسقط الواحد تلو الآخر، شهيداً على ارض المعركة. بيد أن العباس كان له جبهة قتال خاصة به، فقد طلب منه الإمام أن يحضر للأطفال قليلاً من الماء، وكان آخر من بقي مع الإمام الحسين، عليه السلام. وهو حامل لوائه والعمود الفقري لقوته العسكرية. وعندما اخترق صفوف الاعداء ووصل الى ماء الفرات، ملأ القربة ماءاً وقفل راجعاً الى المخيم، فكمن له الاعداء بين النخيل، خوفاً من بأسه وسيفه البتار، وبعد تلك المواجهة المعروفة وما آل اليه مصير العباس، على يد أولئك الزمرة الحاقدة، و اصبح، عليه السلام، من دون يدين يقاتل بهما، ثم رأى القربة وقد أصابها سهمٌ وأريق ماؤها على التراب. في هكذا موقف ماذا يفترض ان يدور في رأس أي انسان في هكذا موقف وحال...؟ أ غير اليأس والاحباط والاستسلام للقدر؟ هذا إن لم مصحوباً بشيء من الندم على عدم اتخاذ هذا الاجراء او ذاك في ساحة المعركة.
بيد أن العباس، عليه السلام، كان على شاكلة أخرى، فهو مع هندامه المتكامل وقوته العضلية وقوامه الممشوق وسيفه بيده، والى جانب الامام الحسين، عليه السلام، وبين أبطال آخرين في معسكر الحق، يحمل الثقة بالنفس والعزيمة والايمان، كما يحمل كل ذلك، وهو وحيد الى جانب المشرعة وقد أحاط به الاعداء وتعرض لهجمات عنيفة غير مسبوقة في واقعة كربلاء، فهذا يضرب يمينه وذاك يضرب شماله، والنبال تهطل عليه كالمطر، فتصيب القربة وتصيب عينه و...
في كتابه عن شخصية العباس، عليه السلام، يقول المرجع الديني آية الله السيد محمد تقي المدرسي: "لعل أحداً من اصحاب الامام الحسين، عليه السلام، لم يمر بلحظة حيرة وسط المعركة، كما مر بها سيدنا العباس، عليها السلام. هذه اللحظة التي عاشها ابو الفضل، عليه السلام، بصبر ويقين، كانت عظيمة عند الله – تعالى-". لذا جاءت هتافات العباس، عليه السلام، عندما قطعوا يمينه:
والله إن قطعتمُ يميني
إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
سبط النبي الطاهر الأمين
وعندما فقد يده اليسرى، واصبح بلا يدين هتف، عليه السلام:
يا نفس لا تخشي من الكفار
و ابشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار
قد قطعوا ببغيهم يساري
فاصلهم يا رب حرّ النار
من هنا نفهم سر العظمة التي بلغها الامام العباس، عليه السلام، بين اصحاب الامام الحسين، وابنائه، عليهم السلام، فقد كان الاختبار عظيماً وكبيراً، خرج منه العباس، عليه السلام، شامخاً ليكون رمزاً للإيمان الخالص والبصيرة الثاقبة واليقين في أشد الحالات وأقساها.
اضف تعليق