انّ أَخطر العبوديّة التي يُبتلى بها الانسان - الفرد والإنسان - المجتمع، هي الصّنميّة، التي تقضي على الارادة وبالتالي تقضي على حريّة الاختيار.
فالإنسان الذي يرى في الحاكم، أيّاً كان حجمُهُ ووزنُهُ، عِجْلاً يُعبدُ من دونِ الله، يُدافع عَنْهُ بالحقِّ وبالباطلِ، ويبرّر لَهُ كلّ قولٍ او فعلٍ يصدر عَنْهُ حتّى اذا كان قتْل سِبْط رسول الله (ص) لا يمتلك حقّ الاختيار لانّه مسلوبُ الارادةِ.
لذلكَ أجابَ كلُّ مَنْ سُئلَ عن سببِ حربهِ ضدّ سِبْط رسول الله (ص) ومشاكرتهِ في عاشوراء ضد أهل بيت النبوّةِ والرّسالة في يوم عاشوراء اجاب بالقول [طاعةً للأَمير]!.
انّ الذين قبِلوا بتولّي طاغوتٌ أرعنٌ مثل يزيد بن مُعاوية خلافة المسلمين، هُمُ الَّذِينَ سيطرَ على إرادتِهم، وقبل ذلك على عقولِهم، مفهوم الصّنميّة فتناسَوا كلّ القيم والمبادئ والمفاهيم التي بُعث بها رسول الله (ص) وعلى رأسها الحريّة التي هي حجَر الزّاوية في مفهوم الكرامة، عندما قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
انّ قيمةِ الدّين في انّه يُحرّر الانسان من كلِّ ما مِنْ شأنهِ ان يسجُن عقلهُ وتفكيرهُ في أُطُرٍ ضيّقةٍ، او يمنعهُ أصلاً من التّفكير الحرّ ليختار بارادةٍ حرّةٍ، فالدّينُ بلا حرّية ليس دين الله وانّما دينُ العباد، وتحديداً دينُ السّلاطين، الّذين يفعلونَ المستحيلِ من أجلِ السّيطرَةِ على عقولِ البشر وبالتّالي يقمعونَ حرّيةِ التّفكير ويدمّرونَ حرّيّةِ الاختيار، تارةً بِاسْمِ الدّين وتارةً بِاسْمِ المصلحةِ العُليا وثالثة بحجّة الأمن القومي أو انّ النّاس همجٌ رُعاعٌ لا ينبغي انْ نَدَعَهُم يفكّرونَ ويخْتارونَ، وانّما يلزم ان نقنعهُم بأنّ هناك مَن يفكّر بالنّيابةِ عنهُم ويختارَ لهُم ما يُحقّق مصالحهُم فلماذا تفكّرون وتختارون، اذن، أيّتُها الرّعيّة؟!.
هذه هي السّياسة التي يتّبعها كلّ طاغوت وعلى مرّ التّاريخ، ولقد حدّثنا عنها القرآن الكريم على لسانِ فرعون بقولهِ {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
وتُواصل الماكينة الإعلاميّة للطّاغوت عملَها ليلَ نهارٍ لغسلِ أدمغةِ الرّأي العام وتضليلهِ، حتّى يصلَ الى مرحلةِ التّخديرِ الفكري فتراهُ يُقنع نَفْسَهُ بأنّ السّلطة أحرص على مصالحهِ من نّفسهِ حتّى، فما بالنا نُشغل أنفسنا بالتّفكير؟ وما بالنا نُتعب أنفسنا بالاختيار؟ دعونا نَنام لازالت عيونُ الحاكمِ مستيقظةً تسهرُ على مصالِحنا ولازالت عطاياهُ ومكرُماتهُ تصل إلينا أولاً بأوّلٍ!.
وعندما شاعت هذه الثّقافة في المجتمع قُتل أَلْحُسَيْنُ السبط عليه السلام.
ولذلك، فإنّ عاشوراء هي نهضةٌ من أجلِ تحريرِ الانسانِ من الصّنمية التي يغفو بسببها المجتمع ويخدر وينام، وتحريرُ ارادتهِ ليختارَ بحرّيّةٍ، وتحريرُ عقلهِ من القوالبِ الجامدةِ ليفكّر بطريقةٍ سليمةٍ فيستنتج بشكلٍ صحيحٍ ويتّخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.
انّهُ الهدف الاسمى الذي ضحّى من أجلهِ أَلْحُسَيْنُ عليه السّلام، ولذلك فإنّ كلّ مَنْ يتغافل عن قيمةِ الحُرّيةِ وهو يقرأ أو يُحيي عاشوراء، انّما يستغفل نَفْسَهُ ويُضلّلها، لأنّ كربلاء بِلا حُرّيّة لا قيمةَ لها، وأنّ عاشوراء بِلا حرّيّة عبثٌ، وأنّ الحُسَين (ع) بِلا حريّة ليسَ كعبةً للأحرارِ!.
ويختلفُ سببُ الصّنميّة من شخصٍ لآخر، الا ان الأسباب المشتركة عادةً تنحصرُ في ثلاثةٍ؛
١/ الجهلُ.
٢/ ضعفُ الشّخصية.
٣/ عقدةُ الحقارةِ.
ولكلِّ جيلٍ او مجتمعٍ عِجلٌ يعبدونَهُ من دونِ الله تعالى، فكان الطاغية يزيد بن معاوية العجلُ الذي عبدهُ المجتمع في عهدِ الامام الحسينِ (ع).
ولقد كرّس الامويّون سياسة الصّنميّة وعبادةِ العجلِ من خلال ثلاثةِ أُمورٍ:
الف؛ التّرهيب، فلقد كتبَ مُعاوية الى عمَّالهِ نسخةً واحدةً الى جميع البلدان [أُنظروا مَن قامت عليه البيّنةُ انّهُ يُحبُّ علياً وأهلَ بيتهِ، فامحوهُ من الدّيوان ولا تجيزوا لهُ شهادةً].
ثمّ كتبَ كتاباً اخرَ [مَن اتّهمتموهُ ولم تقُم عليهِ بيّنةً انّهُ مِنهم فاقتلوهُ].
فقتلوهم على التُّهم والظّنّ والشُّبهة تحتَ كلّ كوكبٍ، حتّى لقد كان الرَّجلُ يغلَطُ بكلمةٍ فيُضربَ عنقَهُ، ولم يكن ذلك البلاءُ في بلدٍ اكبرَ ولا أشدَّ مِنْهُ بالعراقِ، ولا سيّما بالكوفةِ!.
ولما استُشهِدَ السّبط الاكبر لرسولِ الله (ص) الامام الحسن بن عليّ عليهما السلام، لَمْ يزل الفتنة والبلاء يعظِمان ويشتدّان، فلم يبقَ وليٌّ لله الا خائفاً على دمهِ او مقتولاً او طريداً او شريداً.
باء؛ التّرغيب، فلقد كان الامويّون يغدُقون بالأعطياتِ على الكذّابين والمحدّثين والمبتدِعين، ويكفي ان نقرأ النّص التّاريخي التّالي ليوضّح لنا الصّورة؛
وكان أعظم النّاس في ذلك، صِناعة الأحاديث المكذوبة والزّور والبُهتان، بلاءً وفتنةً القرّاء المُراؤون المتصنّعون، الذي يُظهرون لهم، للنّاس، الحزن والخشوع والنُّسُك، ويكذِبون ويفتعِلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتِهم ويدنوا بذلكَ مجالسَهم ويُصيبوا بذلك الأموال والقطائِع والمنازِل، حتّى صارت أحاديثَهم تلك ورواياتَهم في أيدي مَن يحسب انّها حقٌّ وانّها صِدقٌ، فرَوَوها وقبلوها وتعلّموها وعلّموها وأحبّوا عليها وأبغضَوا، حتّى جمعت على ذلك مجالسهم وصارت في أيدي النّاس (المتديّنين) الذين لا يستحلّون الكذِب ويبغضونَ عليهِ اهلهُ!.
وانّما قاتلَ عُمر بن سعد بن ابي وقّاص الحُسين السّبط عليه السلام طمعاً بمُلكِ الرّي، وهو الامر نَفْسَهُ الذي ينطبق على كلِّ مَن خرجَ لقتالِ الحُسين عليه السلام، فهوَ إمّا رَهَباً او رَغَباً.
جيم؛ التّخدير باسم الدّين، سواء بالتّفسير الباطل لكتابِ الله تعالى وآياتهِ، او بالأحاديث المزوّرة والموضوعة، فلقد رُويَ عن ابنِ لَهيَعةٍ قال: سمعتُ شيخاً من الخوارج تابَ، فجعلَ يقول؛ انّ هذهِ الأحاديث دينُ الله، فانظُروا عمَّن تأخذونَ دينَكم، فإنّا كنّا اذا هوَينا أمراً صيّرناهُ حديثاً!.
ولقد أشار الامام أَميرُ المؤمنين عليه السلام الى هذه المأساةِ الّتي اذا حلّت بجيلٍٍ قتلتِ الحُسين عليه السلام غَيْرَ مُبالٍ {الْمعروفُ فِيهمْ ما عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا}.
ولتحقيق ذلك شدَّد الامويّون على منعِ إظهار الحقيقة بأيّ شكلٍ من الأشكال، فعندما حاجج ابن عباس يوماً معاوية بن أبي سُفيان ابن آكلة الأكباد وأفحمهُ، قَالَ لهُ مُعاوية؛
يابن عبّاس، إكفني نفسكَ وكُفَّ عني لسانكَ، وَإنْ كُنتَ لابُدّ فاعِلاً، مُظهراً للحقيقةِ ومتحدّثاً عنها، فليكنْ ذَلِكَ سراً ولا يسمَعهُ احدٌ منكَ علانيةً!.
امّا عاشوراء، اليوم وما قبلهُ وما بعدهُ، فلقد فضحت بالخطابِ حقيقةَ الحاكم، ونسفتهُ بالدّم نسفاً، وفضحت بالإعلام الحرّ الشّجاع الهادف اكذوبتهُ، ذاك الذي تحمّلت اعباءَ مسؤوليتهِ العظيمة زينبٍ الكُبرى التي وقفت في مجلس الطّاغية يزيد صارخةً بوجههِ متحدّيةً؛
{فكِدْ كيدَك، واسْعَ سَعيَك، وناصِبْ جَهدَك، فوالله لا تمحو ذكرَنا، ولا تميتُ وحيَنا، ولا يرحضُ عنكَ عارَها، وهلْ رأيُك إلا فنَد وأيّامكَ إلا عَدَد، وجمعَكَ إلا بدَد، يَوْمَ يُنادي المنادي ألا لعنةُ الله على الظّالمين}.
بدمهِ (ع) حطّم أغلال الخوف والرّهبة التي سيطرت على المجتمع، وبالعلمِ أَظهرَ زَيف الدّين الاموي الذي زوَّر الحديث لتضليلِ الامّة، وبشهادتهِ {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}.
اضف تعليق