ما كان أبناء علي (عليه السلام) الا على هذه الشاكلة، صراع بين المثال والواقع.. او بصورة أخرى، المبدأ او النموذج والواقع.
كان المثال واقعا تجسد بجدهم الأكبر محمد بن عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم)، ولم تكن من مسافة تفصل بين الاثنين.. المثال ليس مستحيلا والواقع قابلا لان يرتقي.
هل ثمة استحالة موجودة يومها؟ فلنقل إنها من الممكنات الصعبة، لكنها قابلة على التحقق. حيث تطابق المثال والواقع بين اسلام النص والفعل على متنه او هامشه. رغم وجود الكثير من منغصات هذا الواقع والتي ذكرها القران الكريم (المنافقون)، او وجدت في سلوك عملي (اسير بسيرة رسول الله وسيرة من قبلي).
ماذا عن عليّ (عليه السلام)، وقد اتسعت جغرافية الحكم مساحات وافراد، وأصبحت هموم الحاكم أكثر من توفير الامن ورغيف الخبز؟
أيضا تطابق اسلام النص (اسير بسيرة رسول الله وليس بسيرة اخر معه)، مع الفعل في حضور تأويله (اقاتلكم على تأويله كما قاتلكم على تنزيله).
مقابل تأويل اخر اصبح يمتد على مساحة اكبر من النص الأول من الخلافة الى الملك العضوض مرورا ب (لا حكم الا لله)، من هنا بدأ الشرخ الأول يتسع بين المثال والواقع.
مثال يريد ان يرتقي بالواقع كما كان عليه، في زمن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وواقع يريد ان يشوه المثال، ليكون على شاكلته. لا لون له ولا ملامح لإسلام النص الاول والتنزيل..
ارتضى بطمريه، ورغيفه اليابس، فالحاكم مسؤول عن رعيته، ولا شيء ادعى للنفور من ان يقال حاكم يأكل اللذيذ من الطعام، وهناك بطون جائعة لا عهد لها بالشبع..
في المقابل، حاكم اخر يكرس لواقع جديد، هو أقرب الى الانحطاط والتسافل، الناس عبيد وخول للحاكم، يأمر بما يشاء سلبا للحريات وانتهاكا للعدالة والكرامة. اصبح الحكم عضوضا، والسلطنة فاسدة، والفساد لعنة وخراب.
ثنائية المثال – الواقع، في مستواها السياسي، واتحدث عن الحاكم وولي الامر هنا، يمكن ان ترسم هكذا: المثال : الحاكم–الجماعة، الواقع: الحاكم – الفرد.
لقد أصبح المثال غريبا، لا يطاوع اللسان الحديث عنه، وان فعل فالصحراء المترامية الأطراف كفيلة بخنق الصوت وصداه، هكذا فعلت بابي ذر (رضوان الله عليه)، لكنه بقي في الاحلام وفي الاذهان، ربما ذكرى عابرة يخشى كثيرون الحديث عنها.
في التوجه لتكريس مثل هذا الواقع الزائف، لابد من الاستعانة بفكرة سيطرت على ذهنية المسلمين المنتشين بخزائن البلدان المنفتحة عليهم مالا وذهبا في أيام الفتوحات، وهذه الفكرة ترى في الحاكم انه مفوض من الله او هو ظله وخليفته عليها، الم يقل عثمان بن عثمان حين طلبت منه الاستقالة من الخلافة: (لن انزع قميصا البسنيه الله). مرورا بمعاوية بن ابي سفيان، ووصولا الى أبي جعفر المنصور بعبارته شديدة الوضوح: (انما انا سلطان الله في ارضه).
هذه الترسيمة لثنائية المثال – الواقع، شهدنا لها اتساعا هائلا في شروخها العديدة التي أحدثها كل حاكم حمل لقب امير المؤمنين بعد علي (عليه السلام)، حتى لحظتنا الراهنة بظهور خليفة الزمن الأمريكي أبو بكر البغدادي.
اعود الى الزمن الحسيني لحظة إنوجاده، ولحظة تألقه، ولحظة تفجره،، واتساءل: من للمثال ان يزيل ما تراكم عليه من غبار ويعيد اللمعان اليه؟ وقد امتلأت الجيوب والخزائن، وأصبح التملق للحاكم من اجل كيس الدراهم لمن يبايع ويرتضي، والخوف منه، حيث (السيف والنطع لمن لا يبايع) سيد الميدان بلا منازع؟
تمثل تلك اللحظة وقتها لحظة مفارقة الواقع والانقلاب عليه ومحاولة تطهيره من كل ادران الحاكم – الفرد، والسلطة – الفاسدة - المفسدة، وإعادة (المبدأ – المثال – النموذج)، لتأسيس واقع جديد يتماهى مع النموذج ويرتقي اليه.
لكن مأساة الحسين (عليه السلام) وامتلاء قلب ابيه بالقيح، ومأساة بنيه لاحقا، كان الواقع يحاصر نموذجهم ويريد منه ان يرتهن اليه، فالناس عبيد درهمهم ودينارهم، ومن يوزع اعطيات الذهب عليهم، اما الدين فهو (لعق على السنتهم).
لماذا لم يستطع هذا الواقع ان يرتقي الى النموذج وهو كان في متناول اليد والعقل والقلب؟
كان الحسين (عليه السلام) وقتها، وفي كل وقت، (اكبر من الحياة، ولعله لكبره وعلوه خارج الدائرة التي يمكن للمرء ضمنها أن يتوحد مع البطل رغم تطلعه إليه) هكذا يكتب جبرا إبراهيم جبرا في مقدمته لمسرحية عبد الرزاق عبد الواحد الشعرية (الحر الرياحي).
بعد أربعة عشر قرنا اصبح المثال بعيدا جدا عن النظر اليه كإمكانية للتحقق، رغم كل الادعاءات والشعارات التي ترفعها حركات الإسلام السياسي (الشيعي منها) بصراحة التوجه صوب علي والحسين (عليهما السلام) وما يمثلانه، او بالنسبة لحركات الإسلام السياسي (السني)، وشعارات العدالة والحرية وحاكمية الإسلام.
لكن رغم ما يحاصر هذا النموذج الباهر، من واقع شديد البؤس والالم يبقى حلما يراود الملايين المسحوقة، لعلها في صحوة قادمة يمكن لها ان تستدرج نفسها وهي تنفض عنها لباس العبودية ان ترتقي الى النموذج الذي يتكرر حضوره الرمزي كل عام من خلال استذكار مأساته.
اضف تعليق