نستقبل كل عام موسم الحزن والرثاء في ذكرى استشهاد أبي الاحرار، الامام الحسين، عليه السلام، فيما نشهد استمرار الازمات وتفاقمها يوماً بعد آخر، لاسيما على الصعيد الاقتصادي، حيث تتزايد الفجوة بين الفقير والغني، وترتفع اعداد العاطلين والباحثين عن فرصة عمل، لاسيما بين الخريجين من الجامعات والمعاهد، وهذا ما يترك أثره المباشر على الوضع الاجتماعي والمعيشي. فهل هذا يعني أن عاشوراء والنهضة الحسينية، بعيدة عن الواقع الذي تعيشه الشريحة المتضررة والواسعة في المجتمع؟.
صحيح أننا نستعد لإقامة الشعائر الحسينية، من نشر السواد وتهيئة المساجد والجوامع والحسينيات للمجالس الحسينية، وتنظيم المواكب الراجلة، وإعداد وجبات الطعام للمعزين والزائرين، وغيرها، والصحيح ايضاً، أن من شأن هذه الشعائر اختراق الازمات مهما كانت كبيرة ومعقدة، ومهما كان مصدرها ومنشأها، أما عن كيفية ذلك، فان سماحة الامام الشيرازي الراحل – قدس سره- يدعو في كتابه "الاستفادة من عاشوراء"، اصحاب المجالس الحسينية "لاستثمار هذه المجالس في قضاء حوائج الناس ونشر ثقافة التراحم والتوادد، بما تثيره من الكوامن العاطفية في النفس، وبما تحمل من التوجيه العقلي المؤثر في تغيير السلوك الانساني".
بامكانه ان يقدم الكثير في مجال التكافل الاجتماعي والمشاركة في مكافحة ظاهرة الفقر والبطالة وحل الكثير من المشاكل الاقتصادية في البلاد، ويشير الى حقيقة انسانية في هذا المضمار، وهي الرغبة الجامحة والكامنة في نفس كل انسان للتراحم بأن يكون صاحب اليد البيضاء أمام الآخرين، ويكون أول من يساعد ويخدم ويقدم.
الجميع تحت خيمة الحسين
إن أجواء الشعائر الحسينية بمختلف اشكالها، تمهد الارضية اللازمة لاجتماع مختلف شرائح المجتمع على قضية واحدة ومشتركة، وهي إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، حتى أننا نلاحظ التسابق في الخدمة الحسينية، كما لو أن كل انسان يشعر انه يعيش واقعة الطف، ويستجيب لنداء الامام الحسين، عليه السلام، بـ "هل من ناصر ينصرني"، وعندما يلبس الجميع – أو الغالبية العظمى- السواد، فمن الطبيعي ان تزول الفوارق الطبقية والاجتماعية بشكل كبير، فالجميع يكون في حركة دؤوبة هنا وهناك، في هذا المجلس وتلك التكية والحسينية وفي ذلك الموكب وهكذا... وعندما يكون الهمّ مشتركاً في هذه الايام لإحياء قضية الامام الحسين، عليه السلام، فان من السهل تفهّم كل فرد في المجتمع ظروف وأحوال الآخر، ولنقل أنها فرصة للقاء وتبادل الهموم، وهذا تحديداً ما يريده الامام الحسين، وعليه السلام، وما تحثّ عليه ثقافة اهل البيت، عليهم السلام. فالامام، عليه السلام، قبل ان يصل الى كربلاء ويواجه الانحراف في الدين والضلال في الامة، كان قد مدّ يد العون للشريحة المستضعفة والفقيرة التي اكتوت بنار النظام الاموي الفاسد. ونقل عن الامام السجاد، عليه السلام، أنه خلال دفن الامام شوهد آثار جراح غائرة في ظهر الامام، فظنّ بنو أسد، أنها من أثر الحرب، فنفى ذلك الامام وقال: حاشا والدي ان يناله أحد من الخلف، إنما هي أثر الجراب التي كان يحملها طيلة سنوات مديدة من عمره في المدينة المنورة ويدور على بيوت الايتام والفقراء ليوزع الطعام وما يحتاجونه لمعيشتهم.
آلية العمل الراهنة
هكذا كان إمامنا، عليه السلام، في تلك الفترة، فكيف نكون نحن اليوم؟، ربما يكون مستحسناً حتى هذه الايام زيارة بيوت الايتام و الفقراء لتزويدهم بما يحتاجونه وما يعينهم على ضنك العيش، بيد أن العمل المؤسسي والمنظم أكثر فاعلية، وأسرع فائدة، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي الراحل – قدس سره- في كتابه المشار اليه. حيث يتوجه الى ثلاث فئات، أو حلقات عليها النهوض بهذه المهمة الحضارية لتحقيق التكافل الاجتماعي بأحسن ما يكون:
الحلقة الاولى: الخطيب الحسيني، الذي يتعين عليه إرشاد الناس وتوجيههم من خلال المنبر، الى أهمية قيمة التكافل والتعاون والمشاركة في أعمال البر، مستندين في ذلك على الآيات القرآنية وأحاديث أهل البيت، عليهم السلام، وايضاً سرد القصص والتجارب لكثيرين شاركوا في هذا المسعى وتركوا أثراً طيباً في المجتمع.
الحلقة الثانية: الهيئات الحسينية، التي تنبثق من كل حسينية او مسجد خلال مراسيم عاشوراء، مهمتها جمع التبرعات في صندوق خاص من شأنه ان يكون مصدر إعانة للمحتاجين، وهنا يكون الربط بين مفاهيم النهضة الحسينية، التي ترمي الى إنقاذ الانسان من العبودية للذات وللحكام الطغاة، وترمي ايضاً الى تحقيق الكرامة الانسانية وان يعيش الانسان سعيداً بإيمانه وأخلاقه في المجتمع، ويفتخر أنه يدين بدين الاسلام .
الحلقة الثالثة: الخيريين من التجّار الأثرياء، الذين بامكانهم تمويل المشاريع الخيرية او المساعدة بشكل مباشر. ولعل روح العطاء والبذل الذي نشهده في عاشوراء والاربعين، تكون فرصة حقيقية وذهبية لأن تتجه الى تجسيد الثقافة الحسينية وما كان يدعو اليه الامام الحسين، عليه السلام، في حياته، فهو القائل في مجال الحثّ على التبرع والإنفاق في سبيل الله: "مالك إن لم يكن لك إن كنت له منفقاً فلا تبقه بعدك فيكون ذخيرة لغيرك، وتكون أنت المطالب به المأخوذ بحسابه، واعلم أنك لا تبقى له ولا يبقى عليك، فكله قبل أن يأكلك".
وربما يكون هذا للعبرة – حقاً- ان نقرأ فيما يذكره الامام الراحل بـ "أني قد شاهدتُ أحد العلماء وقد تمكن من بناء أكثر من ثلاثمائة وخمسين مؤسسة في مدة نصف قرن، باستثمار مجالس الإمام الحسين، عليه السلام، وتحريض الناس على ذلك. ورأيت عالماً آخراً تمكن من بناء أربعين مؤسسة في مدّة عشرة أعوام". بما يعني أن هنالك فرصة كبيرة لتحقيق التكافل الاجتماعي بما يجعله ثقافة دارجة في المجتمع، وليس فقط كلمات تكتب وشعارات ترفع هنا وهناك. إنما واقع ملموس يزيل كل هذا الضنك والبؤس الجاثم على صدور شريحة واسعة في المجتمع.
اضف تعليق