تنتمي ثقافة عاشوراء الى الثقافة الإصلاحية التي أطلقها الامام الحسين عليه السلام، منذ أن أعلن وقوفه ضد انحراف السلطة الأموية،، ممثلة بـ يزيد بن معاوية الذي لم يكتفِ بالإساءة الى نفسه، من خلال سلوكه الماجن، وتنكره للقيم الانسانية التي تحفل بها مبادئ وتعاليم الاسلام، بل عمد الى نشر ثقافة التفسخ والانحلال وعدم الشعور بالمسؤولية، في محاولة بائسة ويائسة لنسف ما حققته الرسالة النبوية، من تغيير جوهري وحاسم بين المسلمين، سواء على صعيد بناء الدولة، او على الصعد الاخرى التي جعلت من دولتهم في صدر الرسالة الاسلامية، محط أنظار وإعجاب ومهابة العالم أجمع.
فكان الهدف واضحا، يتركز على تغيير الأهداف الإنسانية العظيمة للإسلام، وأولها نبذ الظلم ونشر العدالة الاجتماعية، وحفظ الحريات، والسماح بالمعرضة، وتأكيد حق المرأة بالحرية والحياة الكريمة، ولكن مثل هذه الأهداف لا تروق ليزيد، لذلك أوغل في حقده، ومارس كل الموبقات، أملا في تغيير مسار الاسلام، وكانت المبادئ الحسينية بالمرصاد.
فركّزت على القيم التي تصون الأمة من الانحراف والتفسخ، وأسهمت في نشر القيم المضادة للفساد، وسادت ثقافة الاصلاح بالضد من انتشار الرذيلة والظلم والطغيان، ولم تكن السلطة هي الشاغل الأول ولا السبب الرئيس في شد الرحال من الحجاز الى كربلاء، لإعادة الإمور الى نصابها الصحيح، فقد كان الاسلام مهددا في الصميم، وكان الصمت على يزيد يزيده رعونة وطيشا، وبدأت الثقافة تضمحل ودورها يضعف ويزول.
وصار النزق الفردي المنحرف ليزيد سيد الموقف!، لذلك لم يكن ثمة خيار آخر، سوى إطلاق الثقافة المضادة لموجات الفساد التي اجتاحت مسيرة الاسلام، وقد استدعى هذا الظرف الخطير إطلاق ثقافة الاصلاح التي اعلنها الامام الحسين عليه السلام على الملأ بصوت عال، حينما قال: (إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي)، إن هذا الإطار الحسيني الإصلاحي، حمل في طياته ثقافة جديدة، قارعت يزيداً وثقافته في التفسخ والظلم والاستهتار، وقد شرعت ثقافة عاشوراء قبل وبعد استشهاد الحسين عليه السلام، بالعمل على ترسيخ القيم الخالدة التي وقفت الى جانب الانسان ضد التوحش، فبدأت ثقافة عاشوراء مهمتها الخالدة في إعادة الأمور الى نصابها السليم.
ثقافة عاشوراء والواقع الراهن
على الرغم من مرور أكثر من ألف سنة، على أسوأ مفصل سياسي في تاريخ الاسلام، متمثلا بتربّع يزيد بن معاوية على عرش الخلافة، ونشر ثقافة الانحلال بدلا من ثقافة الارشاد الاسلامية، فإن تبعات تلك المرحلة ظلت تظهر وتخبو على نحو متناوب في المشهد الحياتي للمسلمين، فقد أنجب يزيد أجيالا من الفاسدين، فيما شرعت الثقافة الحسينية تكافح ذلك الفساد والى اليوم، وقدمت في هذه المسيرة الكفاحية الشاقة والطويلة، شهداء قد يصعب عدّهم، قدموا أنفسهم قرابين لرفعة الاسلام من خلال نشر ثقافة الاصلاح الحسينية التي انطلقت شعلتها في اللحظة التي بدأت فيها مقارعة الانحراف الأموي.
هذا يعني أننا كمسلمين نواجه بين مرحلة وأخرى، وبين عصر وآخر، فسادا في الثقافة، ينعكس على السياسة والاجتماع وغيرهما، يبدأ هذا الفساد بنخر منظومة القيم، والعمل على نشر قيم بديلة، تسعى لتدمير الانسان فكرا وسلوكا، وعندما يتم تدمير القيم، فإن الانسانية ستكون في خبر كان، وان المادية تنتعش، والطمع يزدهر، والفساد بكل أنواعه ينتشر بين مؤسسات الدولة والحكومة، بل يجد في المجتمع كله تربة صالحة لنشر الفساد.
لهذا لا يزال الصراع قائما حتى اللحظة، بين منهج يزيد، ومنهج الاسلام القويم الذي أكده ودعمه الموقف الإصلاحي العظيم للامام الحسين عليه السلام، بمعنى أننا عندما نتفحص واقع المسلمين، سنجد ملامح الانحراف لمنهج يزيد حاضرة، وسوف نقارن بين ما مضى وما نعيشه اليوم، ليكتشف المسلمون ان التاريخ ربما يكرر بعض حلقاته، في رحلة الصراع بين الخير والشر.
لذلك يمكن أن نلاحظ في عدد كبير من الدول الاسلامية والعربية، تراجعا لثقافة الاسلام الصحيحة، وازدهارا او تصاعدا لحضور الثقافة المنحرفة، ممثلة بالتطرف والتعصب وموجات التكفير، وقطع الرؤوس وتفجير الابرياء بالسيارات المفخخة او عبر زج الانتحاريين بشتى طرق الاحتيال والخداع وغسيل الدماغ، لدرجة ان منهج يزيد اللاخلاقي يتجسد تماما في مثل هذه الأفعال التي ينسبها أصحابها الى الاسلام، في حين انها تسيء للاسلام والمسلمين، وهذا هو هدف يزيد وثقافته منذ ولادتها.
إنها ثقافة الانحراف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهي ثقافة الانحلال والتفسخ وضرب كل ما حققه المسلمون من انجازات انسانية خالدة، وهكذا يمكن أن نلاحظ بما لا يقبل الشك، استمرارية الصراع بين ثقافة عاشوراء، وسعيها للنهوض بواقع المسلمين في كل مجالات الحياة، وبين ثقافة يزيد التي تسعى الى تشويه الاسلام وتدمير المسلمين عبر ثقافة التطرف والانحراف.
الصراع لا يزال مستمرا
عندما نتفحص حياة المسلمين الآن، لا يمكن أن ننكر الامتداد الثقافي لمنهج الانحراف الذي زرع بذوره يزيد، وعاونه على ذلك من بقي متشبثا بجذور الشر والفساد والانحلال، لاسيما أولئك الذين اعتادوا العيش في بيئة ثقافية فاسدة، فمثل هؤلاء لا يمكنهم العيش في بيئة ثقافية نظيفة، كونهم ينتمون الى الفساد والتفسخ بالسليقة.
هذا يعني أن المسلمين ازاء معضلة متعددة الجوانب، ثقافية اخلاقية اجتماعية، وليس هناك امل في معالجة هذه المعضلة، إلا اذا وعى الجميع، لاسيما النخب هذا الوضع المريب، وشرعوا بالتخطيط الصحيح لدرء المخاطر التي تتهدد مصيرهم، ولدينا في هذا الجانب ثقافة مضادة للانحراف، وكلنا على مغرفة بها، انها ثقافة الحسين عليه السلام، ثقافة العدل والانتصار للحق، ثقافة نبذ الطغيان والظلم بأشكاله وصوره كافة، إنها ثقافة الإصلاح بكل ما تعنيه الكلمة.
هذه هي الثقافة التي يمكن نستنهض من خلالها جموع المسلمين، كي يستنهضوا بدورهم تلك القيم العظيمة التي زرعها النبي الأكرم (ص) في نفوس المسلمين كافة، ولكن لا يمكن أن نحقق مثل هذه الاهداف العظيمة بالكلام، او بالتمني فقط، إننا ازاء ركام هائل من التقاليد والقيم الرديئة التي فاقمت من التطرف بين المسلمين، وشوهت قيم الاسلام وأساءت له، ولا يزال العالم في حيرة من أمره، فهناك من يقتل البراءة ويستبيح الدم وينتهك الحرمات، وكل هذا يحدث باسم الاسلام.
لذلك يحتاج المسلمون الى ثقافة الاصلاح الحسينية، حتى نستنهض القيم في المجتمع، وقف بالمرصاد لثقافة الانحراف، وها أننا نقترب اليوم من ذكرى عاشوراء، وهذا يستدعي التمسك بهذه الثقافة بصورة عملية دقيقة، ليس للتبجح او التصنّع او كسب المصالح والمنافع بغطاء الدين، وانما مقارعة ثقافة الانحراف والتطرف بوساطة ثقافة القيم الانسانية الجليلة، ثقافة عاشوراء الانسانية الخالدة.
اضف تعليق