إن هذه الزيارة الجماهيرية الكبرى، تعد فرصة نادرة ومناسبة لكي يقرر المسلمون ماذا يفعلون من أجل إصلاح أمورهم كلها، ويجب أن يبقى الهدف من استثمار زيارة الأربعين قائما، خصوصا من الناحية الفكرية التنظيمية ومن ناحية التسلح بالوعي الجمعي، فيفترَض أن يتم رفد المواكب الحسينية بالأفكار الإصلاحية كما دعا الحسين (ع) الى ذلك...
تستقطب محافظة كربلاء المقدسة سنويا، ملايين الزوار، قاصدين زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد مرور أربعين يوما على استشهاده في العاشر من شهر محرم، حيث يتوجه هؤلاء الزوار الكرام من أرجاء وأصقاع العالم كافة، معلنين النصرة للإمام، والوقوف مع الحق الحسيني ضد الانحراف والجور والظلم والاستبداد.
هذا التجمع الهائل الذي يعد أكبر تجمع بشري، يتوجه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بقصد الزيارة والانتصار للمبادئ التي أعلنها الإمام للنهوض بالمسلمين وإعادة الاعتبار للإسلام الذي حاول يزيد تدنيسه وتزويره وتزييفه خدمة للسلطة الأموية المستبدة، وهكذا يجتمع الملايين في ضيافة الإمام الحسين (عليه السلام) في أرض كربلاء المقدسة، مما يتيح فرصا كبيرة في هذه الزيارة لتنمية الوعي الجمعي
ومما تتميز به مناسبة زيارة الأربعين، استعداد مدينة كربلاء المقدسة لاستقبال ملايين الزوار الكرام من خارج وداخل البلاد، مع تهيئة جميع متطلبات الطعام والمنام والراحة طوال وجودهم ضيوفا على أبي عبد الله الحسين (ع)، فيتوافد مئات الآلاف من الشيعة من كافة أنحاء العالم إلى أرض كربلاء لزيارة قبر الحسين، وتصل أعداد الزائرين الى أرقام مذهلة، حين يقوم الملايين من الزوار بالحضور إلى كربلاء مشياً على الأقدام بأطفالهم وشيوخهم من مدن العراق البعيدة حاملين الرايات تعبيراً عن النُصرة، والالتزام بمنهج الحسين (ع).
هذه الشعيرة المقدسة تحتاج إلى تنظيم مسبق ودقيق يقوم به مختصون وعارفون في هذا المجال، مع أهمية التركيز على الارتفاع بالوعي الجمعي للزائرين، بما يصب في صالح البناء القيمي والأخلاقي والاجتماعي، عبر قيم التعاون والتكافل والإنصاف ونكران الذات و وأد الأنانية وإبعاد الصراعات والمنازعات كافة، ونشر ثقافة الحوار والتعاون فيما بين المسلمين.
التعريف بزيارة الأربعين وتفاصيلها
لكي تتم الاستفادة الفكرية والثقافية وتنمية الوعي من خلال التجمع في هذه الزيارة، من الأفضل أن يعرف الزائر الكريم تفاصيل هذه الزيارة ولماذا ظل أتباع أهل البيت ملتزمين بها على مدار القرون والعقود والسنوات، هذه الذكرى تسمى محلياً في العراق بزيارة مردّ الرؤوس (أي رجوع أو عودة الرؤوس)، لأن رؤوس الحسين وبعض من قُتل معه من أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) أُعيدت لدفنها مع الأجساد بعد أن أخذها جيش بني أمية إلى يزيد وطافوا بها تباهياً بالنصر على سبط الرسول الأكرم، وأطفاله ونسائه الذين يمثلون ذرية وامتداد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
بعد التعريف بهذه الزيارة وتفاصيلها، نأتي الآن الى محصلة منهجها، ومن أين يتم تدبيج هذا المنهج، وهل هو يمثل إرادة الحسين (ع)، ومنهجه الإصلاحي الذي خرج من أجل نشره وتثبيته في أمة الإسلام، وإعادة السفينة الإسلامية الى مسارها السليم بعد أن انحرفت وشطّت وذهبت في سبل الضلال والانحراف والأنانية، حيث بات قائد المسلمين باحثا عن اللذة طائشا، أعجبته نفسه، وهرع الى كنوز الثروات والخراجات، واستماله حطام الدنيا، فعاقر الخمر ولاعب القرود، وبحث عن الملذات، يصاحب ذلك ظلم طال فقراء الأمة وإهمال ما بعده إهمال.
ولم يكن هناك سبيل الى كف المواجهة مع يزيد المتهور وإعلان الثورة، إلا القبول بما يريده ويخطط له هذا المنحرف، فانطلق صوت الإصلاح الحسيني الهادر، ولم يتوقف هذا الصوت الى عصرنا هذا، وهو أقوى صوت إصلاحي مناهض للظلم عبر التاريخ، ولطالما أرعب الطغاة وهزّ عروشهم وأسقطهم، فيما يتمسك المسلمون بجموعهم الهادرة بهذا المنهج العملاق، منذ مئات السنين التي تتعاقب خلف بعضها، مضيفة أرقاما جديدة في كل يوما للمؤمنين بالمنهج الإصلاحي الحسيني.
هذه الثورة العملاقة التي قادها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الأمل الذي يتشبث به المسلمون والشيعة لمواجهة الظلم والاستبداد من أي طرف أو جهة كانت، سواء أنظمة سياسية أو سلطات ظالمة تحت أية مسميات كانت، أو أهداف مغرضة، هذه التضحية الحسينية هي دليل المسلم والناس جميعا إلى الوعي بما يدور حولهم، وهي المحفز المعنوي الذي يدفعهم بمواجهة الشر والظلم والجور بكل أنواعه.
إن صوت الإمام الحسين (عليه السلام) يحمل منهجه الداعي الى (العدل، الاحترام، النزاهة، المساواة، التسامح، رفض التطرف والتعصب، العلم، العمل، الانتصار للفقراء)، إنها مبادئ المنهج الحسيني، وفكره الإصلاحي الذي ينبغي أن يُستثمَر بأفضل الطرق والسبل من القادة والنخب والأتباع، فكل من يقول بأنه ينتمي الى الإمام الحسين (ع)، فكرا وروحا ومنهجا وقلبا وقالبا، مطلوب منه وإنما مفروض عليه أن يتمسك بالفكر الحسيني ومبادئه ويطبقها في حياته، ولا يتردد في ذلك قيد أنملة، وعليه أن يعي جيدا ماذا يريد منه الإمام وما هو دوره في المجتمع.
أما المشكلة الأشد وقعا وضررا في واقع العراقيين والمسلمين، فهي تحويل الفكر الحسيني ومبادئه الى غطاء لتمرير مآرب وأهداف وغايات بعض القادة والعاملين في السياسة، علما أن هؤلاء لا علاقة لهم بالمنهج الحسيني إلا بقدر ما يحقق لهم أهدافهم، وهي المال والسلطة والجاه، حتى لو تم ذلك على حساب حقوق ومصالح عامة الناس، لكن عموم المسلمين وعوا جيدا مآرب كل شخص أو جهة أو مسمى معين، ووعوا الكيفية التي يتعاملون بها مع المخادعين بفضل زيارة الأربعين والقيم الحسينية التي زرعتها ثقافة عاشوراء في قلوبهم وعقولهم.
زيارة الأربعين والأمل بالتغيير الأفضل
كل زائر تطأ قدماه أرض كربلاء المقدسة عليه أن ينهل من المناهل الفكرية الحسينية التي يتلمّسها في هذه الزيارة، في المواكب الحسينية، في التعاون فيما بين الناس، في نكران الذات الجمعي، في قيم التعاون التي تسود الزوار جميعا، علما إن مشاكل المسلمين والعراقيين كثيرة، وهي تتلخص بعدم قيام الحكام وحكوماتهم بواجباتهم وفقا للعدل والحق، فواقع العراقيين والمسلمين، يدل الى عدم التزام هؤلاء بما يعلنونه من أنهم ملتزمون بالمنهج الإصلاحي الحسيني، مما يتطلب وعيا جماعيا لكل المسلمين، ويجب التذكير دائما بالحقوق المنتهكة.
فأما الإصلاح وفقا للمنهج الحسيني ومبادئه العادلة، وأما التمسك بالبديل وهو مواصلة فضح كل من يبتعد عمّا أعلنه وأراده سيد الشهداء، والمعني بذلك استمرار توعية الجميع من خلال استثمار زيارة الأربعين وتوعية الناس بحقوقهم، وما هي وسائل استرداد الحقوق والحريات والدفاع عنها، تماما كما فعل الإمام الحسين حين عرف أن لا سبيل في مجاراة الحاكم المنحرف، وليس هناك سوى طريق المواجهة وفضح الاستبداد والتصادم معه.
إن هذه الزيارة الجماهيرية الكبرى، تعد فرصة نادرة ومناسبة لكي يقرر المسلمون ماذا يفعلون من أجل إصلاح أمورهم كلها، ويجب أن يبقى الهدف من استثمار زيارة الأربعين قائما، خصوصا من الناحية الفكرية التنظيمية ومن ناحية التسلح بالوعي الجمعي، فيفترَض أن يتم رفد المواكب الحسينية بالأفكار الإصلاحية كما دعا الحسين (عليه السلام) الى ذلك، ويجب أن تُقام فعاليات ثقافية فكرية فنية تشرف عليها منظمات وشخصيات مؤهلة لهذا الدور، فاستثمار هذا التجمع السنوي المليوني أمر في غاية الأهمية.
هكذا هي زيارة الأربعين، وهذا هو الفكر الحسيني العظيم، إنها بارقة الأمل للعراقيين والمسلمين والبشرية كلها، كي يسود عالمنا العدل والإنصاف والقيم التي ثار من أجلها الإمام الحسين، العالم كله مسجون بنظام استبدادي قاهر، وما على الناس جميعا سوى التسلح بالقيم العظيمة التي تسلح بها الإمام الحسين وصحبه الأطهار و واجهوا بها الطغيان وأسقطوه وانتصروا عليه، وهذا ما ينبغي أن يرسخ رسوخا جمعيا في وعي المسلمين ولا وعيهم.
اضف تعليق