هذهِ الإِنتفاضةُ وتضحياتها يجب أَن يدرسَها العراقيُّون اليَوم ويتعلَّموها ويحفظُوها ليعرِفُوا حجمَ الثَّمن الذي قدَّمهُ أَجدادهُم وآباءهُم وإِخوانهُم، كبيرهُم وصغيرهُم وشبابهُم، ليحمُوا الأَربعين ليشتركُوا فيها الآن مع الملايين من مُختلفِ دُوَل العالَم. إِنَّ احترام التَّضحيات هو احترامٌ للمُناسبةِ في نفسِ الوقت فلا تدعُوا أَيُّها العراقيُّونَ تلكَ الإِنتفاضة...
في عام ١٩٧٧ [١٣٩٧ للهجرةِ] دفعَ الحسينيُّون الشُّجعان الثَّمن دماءً من نحورهِم وأَحكاماً بالسِّجن وصمُوداً تحت التَّعذيب ومُطاردات استمرَّت مدَّةً طويلة ًليحمُوا [الأَربعين] من عبثِ الطَّاغوت.
لقد مثَّلت إِنتفاضة صفر الباسِلة أَرقى صُور التحدِّي لقرارات النِّظام الجائِر الذي بدأَ مِشوارهُ في السُّلطةِ إِثر إِنقلاب ١٧ تمُّوز عام ١٩٦٨ بالتحرُّش والعبَث بالحَوزةِ العلميَّةِ في النَّجف الأَشرف وكربلاء المُقدَّسة والكاظميَّة المُقدَّسة، ثمَّ بالعَبثِ بالتيَّار الدِّيني المُتنوِّر عندما بادرَ إِلى إِعتقالِ مجموعاتٍ كبيرةٍ منهُ ثمَّ إِصدار أَحكام الإِعدام الجائِرة بحقِّ خمسةٍ مِنهُم.
ظنَّ أَنَّ هذا العبَث بالزَّعامةِ ومُؤَسَّساتِها سيُوطِّئ لهُ الأُمور ويُعبِّد لهُ الطَّريق لينتقلَ إِلى [الشَّارِع] المرحَلةُ الثَّانية من حربهِ اللَّعينة ضدَّ قِيم وثَوابت العراقيِّين وهيَ العبَث بالشَّعائر الحُسينيَّة ومُحاربتِها ومنعِها وبذرائعَ شتَّى منها أَنَّها تتعارض مع النُّهوض الحضاري الذي ينشدهُ [الحِزب والثَّورة] وأَنَّها مِن صُور التخلُّف والرجعيَّة وأَنَّها تُنهك ميزانيَّة الدَّولة وأَجهزتها الأَمنيَّة والخدميَّة وأَنَّها بابٌ من أَبواب نفُوذ الأَجنبي الحاقِد الذي يتربَّص بـ [الحزب والثَّورة]!.
ولقد تطورَّت قراراتهِ وأَدواتهِ في الحربِ على الشَّعائر الحُسينيَّة حتَّى كانت أَخطرها وأَشدَّها إِيلاماً عام ١٩٧٧ عندما منعَ المسير إِلى كربلاء في الأَربعين.
الحُسينيُّون صمَّمُوا على المُواجهةِ وكسرِ قرارِ الحَظر مهما كانَ الثَّمن، لأَنَّ السُّكوت والإِستسلام والخضُوع للقرارِ الظَّالم يعني التَّنازُل عن واحدٍ من أَكثرِ الثَّوابت التاريخيَّة التي تُميِّز العراقييِّنَ في علاقتهِم مع دينهِم ومعَ أَهل بيت النبوَّة والرِّسالة، وتحديداً مع عاشوراء الهويَّة والرَّمز والشِّعار والجَوهر.
تحدَّى الحسينيُّون القرار الجائِر وكانَ الثَّمنُ غالياً جدّاً عبارةً عن دماءٍ من نحورهِم وآلام تحتَ سِياطِ التَّعذيب وقرارات بالإِعدام والسِّجن لِمُددٍ مُختلفةٍ وحربٍ نفسيَّةٍ واسِعةٍ.
إِنَّهُ الثَّمن الذي دفعهُ الحسينيُّون لترى الأَجيال اللَّاحقة هذهِ المسيرات المليونيَّة التي تجُوبُ العالَم في ذِكرى أَربعين سيِّد الشُّهداء الإِمام الحُسين بن عليٍّ السِّبط (ع).
وهكذا شاءَ الله تعالى أَن يكونَ لكُلِّ شيءٍ ثمنٌ {رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ} [كما يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) مُخاطِباً أَصحابهُ] يدفعهُ جيلٌ ليحميهِ من عبثِ العابثينَ من أَجلِ أَن يتمتَّعَ بمنافعهِ الرُّوحيَّة والمعنويَّة أَجيالٌ تأتي من بعدهِم، وهي الحقيقةُ التي أَشار إِليها الحديثُ النَّيوي الشَّريف عن رسولِ الله (ص) {جاهِدُوا تُورِثُوا أَبناءكُم عِزّاً}.
لا تنتظر دائماً أَن تحصِدَ العِز وأَنت تُجاهد من أَجلِ قضيَّةٍ مُقدَّسةٍ، فقد تُقتَل فتنتهي حياتكَ، إِنَّما فكِّر في الأَجيالِ القادِمةِ التي ستتمتَّع بثمرةِ جِهادِكَ وتضحِياتِكَ [العزَّة والكَرامة].
إِنَّها فلسفةُ عاشُــــــــــــــوراء، فهذهِ مِن سُنَنِ الحياةِ وطبيعةِ الأَشياءِ!.
فمَن كان يظنُّ منَّا في تلك اللَّحظةِ من عام ١٩٧٧ والتي كُنَّا نقطع فيها المسافةَ بين النَّجف وكربلاء ونحنُ في قلقٍ يشُوبهُ الخَوفَ والحذَر تُحاصرُنا الطَّائرات من فوقِ رؤُوسِنا والدَّبَّابات في الإِتِّجاهات الأَربعة، ونرى فيما بعدُ أَعواد المشانق تتدلَّى منها أَجساد الشُّهداء الطَّاهرة والسُّجون قد احتضنت الآلاف المُؤَلَّفة من أَنصارِ الحُسين السِّبط (ع) ليمكُثَ فيها عددٌ منهُم ليقضُوا أَحكاماً بالسِّجنِ صدرَت بحقِّهم مِن قِبَلِ محكمةِ [قَرَقُوش] كان أَشدَّها وأَطولها [المُؤَبَّد] الذي صدرَ بحقِّ عددٍ منهُم على رأسهِم مبعُوث المرجعيَّة الدينيَّة في النَّجف الأَشرف وتحديداً مبعُوث المرجِع والفقيه الشَّهيد الصَّدر الأَوَّل، وأَقصد بهِ شهيدُ المِحرابِ آيةُ الله السيِّد مُحمَّد باقر الحكِيم.
فيما أَطلق الطَّاغية لماكينتهِ الإِعلاميَّة المُضلِّلة العَنان لتشُنَّ حملةً من الأَكاذيب والإِفتراءات ضدَّ الحُسينيِّينَ لتسقيطِ اعتبارهِم وتشويهِ سُمعتهِم وهدفهِم والطَّعنِ بوطنيَّتهِم فاتَّهموهُم بتُهَمٍ باطلةٍ شتَّى، وفبركَ، من جهةٍ أُخرى، سيناريو مُحاولة المدعُو [محمَّد نعناع] لتفجيرِ الصَّحنِ الحُسيني الشَّريف بإِيعازٍ من النِّظامِ في سوريا واعتبارِ المنتفضينَ عُملاء يُنفِّذُونَ أَجندات خارجيَّة ومُؤامرات دَوليَّة وهُم مُرتبطُونَ بالسَّفاراتِ!.
مَن كانَ يظنُّ وقتها أَنَّ كُلَّ شيءٍ سينقلبُ رأساً على عقِب فيُركَلُ النِّظامُ في مزبلةِ التَّاريخِ وتعُودُ [الأَربعين] إِلى قِمَّةِ زهوِها المليوني؟!.
وصدقَ العظيمُ في كتابهِ الكريمِ {وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ} وقولهُ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
هذهِ الإِنتفاضةُ وتضحياتها يجب أَن يدرسَها العراقيُّون اليَوم ويتعلَّموها ويحفظُوها ليعرِفُوا حجمَ الثَّمن الذي قدَّمهُ أَجدادهُم وآباءهُم وإِخوانهُم، كبيرهُم وصغيرهُم وشبابهُم، ليحمُوا [الأَربعين] ليشتركُوا فيها الآن مع الملايين من مُختلفِ دُوَل العالَم.
إِنَّ احترام التَّضحيات هو احترامٌ للمُناسبةِ في نفسِ الوقت فلا تدعُوا أَيُّها العراقيُّونَ تلكَ الإِنتفاضة أَن تندثرَ ذِكراها.
وخيراً فعلَ المُحقِّق الحُجَّة الشَّيخ الدُّكتور مُحمَّد الحسُّون، [رئيس مركز الأَبحاث العقائديَّة] بإِصدارهِ العام الماضي كتابهُ المَوسوم [إِنتفاضةُ النَّجف الأَشرف الصَّفريَّة في أَربعينِ الإِمام الحُسين (ع)] [ليُضيفَ للمكتبةِ عنواناً جديداً إِلى جانبِ ما كُتِبَ عنها لحدِّ الآن] والذي أَرَّخ فيهِ تفاصيلَ كثيرةٍ عن الإِنتفاضةِ بالإِضافةِ إِلى تحليلِها وتسجيلِ ردُودِ فعلِ النِّظام المُستبد ضدَّها وتوثيقِ موقفِ المرجعيَّة الدينيَّةِ في النَّجفِ الأَشرفِ منها، وكُلُّ ذلكَ بالصُّور والوثائق [التي تشرَّفتُ بالتَّعاوُنِ معَ سماحتهِ ومساعدتهِ في استحصالِ الكثيرِ منها] إِلى جانبِ توثيقِ صُوَر وسِيَر ودَور الشُّهداء والسُّجناء وغيرهِم فيها.
كما لا يسعني أَن أَغفل الدَّور الرِّيادي الذي يُؤَدِّيه اليَوم أَحد أَبرز الذينَ ساهمُوا في الإِنتفاضةِ منذُ لحظةِ الإِعدادِ لها وتهيِئةِ أَدواتها حتَّى إِفلاتهِ من الإِعتقال بعدَ أَن صدرَ ضدَّهُ حُكماً بالإِعدامِ، وأَقصُد بهِ الأَخ الحاج مُحمَّد عبد الرَّسول البَلاغي (أَبو لَيث) الذي يستذكِر الإِنتفاضة بوفاءٍ بكلمتهِ التي يُلقيها كُلَّ عامٍ أَمامَ الملايينِ الذين يشتركُونَ في مسيرةِ الأَربعين في العاصِمةِ البريطانيَّة لندن والتي يُتابعها الملايين حَول العالَم بالبثِّ الحيِّ المُباشِر عِبرَ مُختلفِ وسائلِ التَّواصل الإِجتماعي فضلاً عن القنواتِ الفَضائيَّة.
إِنَّ استحضار الماضي يحمي قُصص التَّضحِيات ويُنوِّر طريق الحاضِر والمُستقبل بالدُّروسِ والتَّجارب والعِبر.
اضف تعليق