قيمة التوبة هي التي تخرج صاحبها من شرنقة الذات والبحث عن المصالح والمكاسب المادية من خلال الحرية، الى حيث الاهداف السامية في الحياة الدنيا وفي الآخرة معاً، فربما تكون لحظة الحرية نحو التوبة الحقيقية التي تنقل صاحبها من ارتكاب الرذائل الى اعتناق الفضائل في حياته اليومية...
"إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا".
الحُر الرياحي
جاءت هذه الكلمات الساطعة في صفحات التاريخ في سياق جواب الحُر على أحد الاشخاص كان قريباً منه، سأله عن سبب ارتعاشه بما خلق تصوراً لدى الاخير بأن الحر قد اعتراه الخوف من خوض المعركة ضد الامام الحسين، عليه السلام، وهو تصور ناتج عن عجزه إدراك مكنونات الحر وأبعاد تفكيره الخارقة للزمان والمكان، فقد انتهى للتوّ من محادثة استوضح فيها من عمر بن سعد بأن أ مقاتلٌ أنت هذا الرجل –يقصد الامام الحسين-؟ أجابه: أيّ والله! قتالاً أيسره أن تطيح الرؤوس وتقطع الأيدي، ثم أردف الحُر بسؤالٍ آخر ليعزز رؤيته ومعرفته أكثر ويتخذ قراره النهائي، وقال لابن سعد: وماذا عما عرضه الامام الحسين من خِصال –يقصد منزلته ومكانته- فأجاب: لو كان الأمر بيدي لقبلت، ولكن أميرك ابن زياد يأبى ذلك!
تحطيم أغلال التفكير
في مقال سابق أشرنا الى ضرورة توفر مشاعر الرفض القاطع لحالة يريد الانسان تغييرها، فالذي لا يستشعر المهانة والذلّ من حالة الفقر والحرمان التي يعيشها لن تحركه أقوى الشعارات المنادية بالمساواة والعدل والتوزيع العادل للثروة، وإن تصدرت المشهد بقوة التنظيم (الحزب)، وقوة السلاح، وعوامل اخرى، فان الذي سيتحول؛ هو النظام السياسي، وليس النظام الاقتصادي المسبب لظاهرة الفقر في المجتمع.
وهذا ما فعله الحُر الرياحي في تلك اللحظة الحاسمة، فقد تميّز عن الآخرين في جيش ابن سعد باستشعاره القيود الثقيلة على منظومته الفكرية، وأنه في الحالة التي واقف فيها بين الجموع، ويعد أحد القادة الشجعان في الجيش، ما هو إلا قطعة صغيرة صماء يحركها ابن زياد وهو في قصره بالكوفة.
فما هي الاغلال والاقفال على أبواب التفكير؟
يمكن الإشارة الى بعضها:
1- التضليل والتعتيم على الحقائق، واستبدالها بصور أخرى.
2- الطاعة العمياء لاعتبارات سياسية وعشائرية.
3- الانكفاء على الذات، والتعصّب للرأي الشخصي وإن كان خاطئاً.
وقد عملت الدعاية الأموية على اختلاق الصورة السياسية لتحرك الامام الحسين باتجاه الكوفة بأنه يطالب بالحكم، وهذا سبب رفضه البيعة ليزيد، ولذا شاع بين الناس مقولة: "ما لنا والدخول بين السلاطين"، كما عمل ابن زياد على تفعيل عامل القبيلة والعشيرة في المجتمع الكوفي ليكون الذراع المساعد لجمع أكبر عدد من الناس المؤيدين لما يذهب اليه، وليشكلوا ذلك الجيش الجرار الذي يُقال في التاريخ أنه وصل ارض الطف وذيوله على مشارف الكوفة.
وجاء التغرير بالوعود والاموال والامتيازات ليطمئن ابن زياد على أقفال التفكير في رؤوس من حضر لقتال الامام الحسين.
وجاء في المصادر التاريخية أن الشمر، أو سنان بن أنس النخعي –على اختلاف الآراء فيمن باشر بقتل الإمام الحسين- جاء الى ابن زياد في الكوفة وأنشد متزلفاً طامعاً بالجائزة:
املأ ركابي فضة او ذهبا
اني قتلت السيد المحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا!
فغضب ابن زياد وقال له: إن كنت علمت بأنه خير الناس أماً وأبا، فلِمَ قتلته؟! اخرج لا جائزة لك!
أما الحر الرياحي فقد أكد للإمام الحسين، عليه السلام، بأنه ليس من أولئك الذين {عَلى قلوبٍ أقْفالُها}، ولذا توجّه اليه مطأطئاً برأسه ندماً على الساعات والايام التي قضاها في جيش عمر بن سعد، فكان الاستقبال حافلاً بوسام عظيم من الإمام بأن "أنت حرٌ كما سمتك أمّك"، والى جانب هذا الوسام، فقد منح الإمام الفضل لأمه لدورها المباشر في تكوين شخصية هذا الابن البار على الصلاح والفضيلة.
من قيمة الحرية الى قيمة التوبة
عندما يجد الانسان نفسه أمام نافذة الحرية في التفكير والعمل، وأنه قادر على الانطلاق بملء إرادته، سيجد سؤالاً كبيراً أمامه: الى أين؟!
وبمقدار تحديد الوجهة، يستشعر الانسان لذة الحرية وأنها ستأخذه على حيث يريد في الحياة، ومن ثمّ اذا حدد ماهية هذه الوجهة، وما الذي تسفر عنه، سيشعر بانه ليس انساناً عبثياً ولم يقض وقته بلا طائل، وإنما ثمة مكاسب تنتظره.
وفي لحظة حرية الحُر في التفكير كان الوجهة محددة بشكل دقيق جداً، وإلا فان رجالاً سبقوه قبل أيام من الواقعة، رافقوا الإمام الحسين ليالي وأياماً في الطريق بين مكة والعراق، ولكن؛ عندما وضعهم الامام الحسين على مفترق الطريق مطلقاً لهم حرية التفكير وتقرير مصيرهم، فانهم استفادوا من هذه الحرية، وربما شكروا الإمام على هذه الروح العالية، ثم "اتخذوا الليل جملاً"، بملء حريتهم وغادروا قافلة الامام، ولكن؛ الى اين؟!
هذا هو السؤال الفاصل بين الخلود والضياع، ربما كان الواحد منهم الى جانب أحد شهداء الواقعة، فأين اسمه من اسماء شهداء كربلاء؟! وإن بقي حيّاً بعد الواقعة، ما الذي كسبه يا ترى في هذه الحياة؟
العدد الذي يذكره التاريخ مع بعض التفاوت في الارقام، من اصحاب الامام الحسين، عليه السلام، كسبوا إيمانهم بحريتهم في اتخاذ قرار المضي قدماً في طريق الشهادة، بينما كسب الحُر التوبة بلحظة حريته، فتحول سريعاً من الباطل الى الحق، ومن الضلال الى الهداية، فقيمة الحرية تجسدت في قيمة التوبة الى الله –تعالى- التي ادركها الحُر في تلك اللحظة.
وهذه القيمة (التوبة) هي التي تخرج صاحبها من شرنقة الذات والبحث عن المصالح والمكاسب المادية من خلال الحرية، الى حيث الاهداف السامية في الحياة الدنيا وفي الآخرة معاً، فربما تكون لحظة الحرية نحو التوبة الحقيقية التي تنقل صاحبها من ارتكاب الرذائل الى اعتناق الفضائل في حياته اليومية وترك بصمات خيّرة وبناءة لمن حوله في المحيط الاجتماعي، وايضاً في محيط العمل، وربما على الصعيد السياسي والاداري.
اضف تعليق