قضية الامام الحسين اختصر تعريفها الحر الرياحي في لحظات سريعة وخاطفة، ربما القليل من افراد الجيش الأموي التفت الى ما كان يريد الحر القيام به في تلك اللحظات الحاسمة، فقد أطلق هتافه المدويّ: اني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا اختار على الجنة شيئاً...
"من لحق بنا استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح".
الإمام الحسين، عليه السلام، في بداية انطلاقه نحو الكوفة
نعود مرة أخرى الى الشباب في أيام عاشوراء؛ هذه الشريحة المشحونة بالحماس والاندفاع، والمتوثبة دائماً للعمل والانتاج أكثر بكثير من الآخرين المشاركين في عزاء الامام الحسين، عليه السلام، فيبدو ان مصاديق الكثير من قيم ومبادئ عاشوراء نجدها في حركة هذه الشريحة المهمة في أي مجتمع بالعالم.
بات واضحاً التفاعل الكبير لاعداد كبيرة من الشباب مع الشعائر الحسينية، سواءً؛ في مواكب الخدمة، أو مواكب العزاء، أو في إقامة المجالس الحسينية، تحت يافطات؛ "موكب شباب..."، أو "هيئة شباب..."، ولكن! ليس هذا فقط، فهنالك شباب آخرون، وبنفس الاعمار والاشكال ليسوا في هذه الاماكن والفعاليات وإنما في الكوفي شوب، او المقاهي، او مجتمعين للتسامر والتفاكه، فهؤلاء ايضاً لديهم اهتمامهم الخاص بهم، وقد صادفت بنفسي، وبعد لحظات من انتهاء عزاء "ركضة طويريج" في ظهيرة العاشر من المحرم، مجموعة كبيرة من الشباب في أحد المقاهي جالسين أمام الارجيلة وآلات اللهو فيما يمرّ الراكظون من أمامهم كأن ليس هنالك يوم عاشوراء بالنسبة لهؤلاء الشباب.
هذه ليست حالة شاذة او مثيرة للاستغراب، بقدر ما تندرج ضمن معادلة الصراع بين الحق والباطل، وبين الضلال والهدى، وبين العلم والجهل، فهنالك من التحق برسالة السماء ونصر الانبياء والمرسلين في غابر الزمان، كما هنالك من بقي يرتزق على فتات فرعون، وهامان، وقارون، ونمرود، وسكتوا عمّن جحد برسالة الانبياء وسفك دمائهم، وعندما يطلق الامام الحسين نداءه الخالد لحظة انطلاقه من المدينة باتجاه العراق (الكوفة)، "من لحق بنا استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح"، فهو يرسم طريقين واضحين لا ثالث لهما؛ التضحية والشهادة في سبيل الحق والفضيلة، أو خسارة الفتح والانتصار المعنوي المدويّ الذي نفخر به طيلة القرون الماضية، وهو انتصار الدم على السيف، الذي أشار اليه العلماء والمفكرون من مسلمين وغير مسلمين.
لنعمل للّحاق بقافلة الحسين
هنالك سؤال مثير للتفكّر والتأمل يطرحه البعض من غير الموالين لأهل البيت، له وجاهة رغم مغزاه غير الودّي، بأن "لماذا تستمرون في البكاء على الامام الحسين وهو شهيد ومنعم في الجنان"، فهؤلاء يقارنون بين الامام الحسين وبين أي شخص آخر يفارق الحياة فيشعر ذويه بألم الفراق فتهيج دموعهم واحزانهم، بيد أن الامام الحسين، الذي يبكيه، ليس فقط المؤمنين هذه الايام، ولا السنين والقرون الماضية، بل وبعد أقل يوم واحد على مصرعه في كربلاء، عندما أجهش أهل الكوفة بالبكاء في التفاصيل المعروفة لواقعة السبي والتقاء العقيلة زينب والامام السجاد وبقية السبايا بأهل الكوفة، فهؤلاء كانوا يبكون على حالهم ومصيرهم الأسود بخذلانهم إمامهم ونصرة الطغاة والظلمة وسفاكي الدماء.
إن للبكاء جانباً مهماً في البناء الذاتي، مع الجانب الولائي والعقدي الذي أوصانا به رسول الله، صلى الله عليه وآله، للتعريف بمظلومية أهل البيت، وتبيين موقفهم مكانتهم الاجتماعية والدينية، وفي نفس الوقت معرفة حقيقة من ظلمهم، ومن انتهك الحرمات، وايضاً حقوق الانسان.
فنحن من يحتاج الامام الحسين لا العكس، وذلك في تقويم السلوك وتهذيب الشخصية، وتحديد بوصلة الفكر، وفي حديث شريف ما مضمونه: "نفرح بالداخل الينا ولا نحزن بالخارج منّا"، فالشمس تشرق كل يوم وتعمل بانتظام من لحظات الشروق وحتى المغيب، منذ ملايين السنين، وهي ثابتة على هذا المنهج، فهي تبث عناصر الحياة للانسان والحيوان والنبات والطبيعة على الارض، انما المتغيّر والمتحول هو هذه الذوات، لاسيما الانسان المتمرد بطبعه، فهو من يبتعد عن الشمس وفوائدها، بالمقابل هو قادر على الاستفادة الكبيرة من هذه النعمة الإلهية، كما نلاحظ اليوم.
ورب من يتحدث عن الأمور الفنية والمنهجية لتحقيق أقصى الفوائد، والبعض يعقد الجلسات والندوات لإثارة "العصف الذهني" عن كيفية المشاركة في الشعائر الحسينية؟ وما هي الشروط اللازمة؟! ثم يجري البحث في شكل المراثي الحسينية، وطريقة التعزية وإظهار الجزع والحزن على مصاب الامام الحسين، وهل هي من الموروثات الاجتماعية، أم من المرويات المؤكدة من الأئمة المعصومين؟ ثم ما هو الدليل العقلي على صحة الموروث؟! ثم ما هو الدليل النقلي على صحة الرواية؟!
اعتقد أن لو كانت هذه الاسئلة والمقدمات المطولة حاضرة في الايام التي سنّ فيها الأئمة المعصومون الشعائر الحسينية، لما وصل الينا شيء منها مطلقاً، وإن وصل؛ لكان مثل الطقوس الدينية والكرنفالات الشعبية الخالية من الروح والتأثير في كوامن البشر وشخصيتهم، إلا من بعض الحركات المثيرة والمظاهر الجذابة.
قضية الامام الحسين اختصر تعريفها الحر الرياحي في لحظات سريعة وخاطفة، ربما القليل من افراد الجيش الأموي التفت الى ما كان يريد الحر القيام به في تلك اللحظات الحاسمة، فقد أطلق هتافه المدويّ: "اني أخيّر نفسي بين الجنة والنار، والله لا اختار على الجنة شيئاً"، بعد هذا الاختيار واتخاذ الموقف الحاسم، يمكن النظر في اسلوب القتال، كأن يكون بالسيف أو الرمح او استخدام القوس والنبال.
وهكذا الحال بالنسبة للشعائر الحسينية التي كانت منذ انطلاقتها الاولى مثل العين الزلال وسط الصحراء القاحلة يؤمها الظامئون من كل حدب وصوب، لايفكرون سوى بالحظو بغرفة منها، قبل التفكير برعاية الشروط الصحية، وتوخي الحذر من وجود هذا النوع من الفايروس او ذاك!!
هذه الشعائر الحسينية هي التي غيّرت نفوس ضباط في الجيش، وعلماء، ورجال دين بعيدين عن مذهب أهل البيت، ورجال دولة، الى جانب افراد في المجتمع، بعضهم لا يؤمن حتى بوجود الخالق، او من المنغمسين في الاعمال غير اللاخلاقية، وكان هذا يوم كانت الشعائر مثل النهر الجاري في بيوت الناس وفي نفوس مختلف شرائح المجتمع؛ الجاهل منهم والعالم، الصغير منهم والكبير، الرجل والمرأة، مع اختلاف الألسن والاعراق والقوميات، فالمثقف يدفعه تفاعله للتفكّر والتأمل ليتمخض منه افكار ومشاعر ناصعة تعبر عن الواقعة والقضية، في مقالات وكتب، وشعر، ومسرح، فيما تختمر القضية الحسينية في آخرين عندما يحولونها الى منهج تربوي داخل الأسرة لتتحول الى مخيم حسيني جديد ومستديم على مر الزمن يخرّج الاجيال المسؤولة عن سلامة القيم الاخلاقية والدينية في المجتمع، وحتى على الصعيد الفردي؛ حيث يكون الفرد الواحد انساناً محترماً لنفسه ولحقوق الآخرين.
إن الحديث عن هذا الاسلوب او ذاك الشكل في أداء الشعائر الحسينية، او هل من المفيد إفساح المجال لعامة الناس للزيارة واقترابهم من هذا المنهل، حتى الأميين منهم؟ أم نقتصر الأمر على العلماء والمثقفين؟! او إلصاق شائبة المحذور الصحي بالشعائر، كما يحصل اليوم، لا ينتج إلا خسارة فادحة وتخلف بعيد عن الركب الحضاري للإمام الحسين، علماً أن النصوص المقدسة، ونصائح العلماء وتوجيهاتهم سبقت التحذيرات بوقت طويل، وحسمت أمر الشروط والمواصفات اللازم توفرها في الشعائر الحسينية، مثل؛ الحذر من مسالة هتك حرمة شخصيات أهل البيت خلال مشاهد التشبيه، أو الإضرار بالنفس كما في المسائل الشرعية.
اضف تعليق