مِنَ المظاهر العظيمة التي يعيشها المرء ويلمسها ويراها في مسيرة الاربعين المليونية هو هذا التكافل الملفت للنظر في جموع الملايين، والذي يتجلّى في التعاون والتكامل والانسجام والتعايش والتضامن والعلاقة الوطيدة والذوبان في بوتقة الهدف.
انّه احد اعظم دروس عاشوراء التي سطّرها سيد الشهداء الامام الحسين السبط عليه السلام وأهل بيته واصحابه الميامين، فَرَدَمَ به التمييز والطبقية وقضى على العلوّ والاستكبار الذي تُنتِجه العنصرية والطائفية والعصبيّة، اذا به يفسح المجال حتى لعدوّه ليتوب الى الله تعالى فيقبل، مثلاً، زلّة الحر بن يزيد الرياحي الذي كان وقتها يقود جيشاً من الف فارس لمحاصرة الامام وركبه بانتظار أوامر الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد والي الأمويين على الكوفة، فلم يغلق الامام بوجهه باب رحمة الله تعالى التي وسعت كلّ شيء.
لم يحاسبْه الامام على فعله الشّنيع، وإنما تعامل معه على أساس موقفه الجديد، فتجاوز عن الماضي ليبدأ صفحة جديدة معه بعد ان قّرر الحر ان يتوبَ فيكفّر بصدق نية واخلاص عن موقفه الاول الخطأ وغير السليم.
ولو كان الامرُ بيدِ الامام (ع) لكسب الى جانبه، او على الأقل حيّد، حتى قائد الجيش الأموي عمر بن سعد الذي حاول معه مرّات وكرّات، ولكن {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
ومرّة اخرى يردمُ الامام الطبقية فيقضي على العنصريّة والتمييز عندما يضع خدّه الشريف مرة على خد العبد الاسود جون، واُخرى على خدّ ابنه السيد الأبيض علي الأكبر.
وتتكرّر اليوم هذه الصور في مسيرة الاربعين المليونية، فانتَ تشاركُ فيها لا تستطيع ان تميّز بين واحد وآخر، لا على أساس الدين ولا على أساس المذهب ولا على أساس المناطقية ولا على اي أساس اخر كاللون والخلفيّة الثقافيّة والتقليد والعشائريّة وغير ذلك، فكلّهم أنصار الله تعالى وانصار الحسين (ع) يجمعهم الهدف الواحد والشعار الواحد والمقصد الواحد.
وما احوجُنا اليوم الى ان نتشبّع بهذه الصورة وبهذا الموقف الإنساني العظيم ليس فقط ايّام الاربعين او عندما نعيش ذكرى الحسين عليه السلام، فحسب، وإنما نستصحبه في حياتنا اليومية كثقافة نقضي بها على التمييز والأنانية والطبقية والاستعلاء وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي لازالت تنخر بمجتمعنا كالأرْضة التي تأكل الخشب.
ان التكافل، وأعظمُه الاجتماعي، يكرّس ظاهرة التكامل من جانب، ويساهم في إحياء قيم التعاون بشتى اشكالها من جانب آخر، وهو الامر الذي نحتاجه اليوم لنتجاوز كل هذه المحن والتحدّيات التي نواجهها بسبب الارهاب والفساد، وبسبب العنصرية والطائفية التي ينفخ بها البعض ليعتاش عليها ومنها.
وما زاد الطين بلّة هو ان كل هذه الأمراض الاجتماعية عشعشت اليوم في الاسرة الواحدة، بين الاب والام، وبين الوالدين والأبناء، وبين الأبناء انفسهم، وفي المدرسة، بل وحتى في صفوف بعض المعمّمين وأجواءهم التي يُفترض ان تكون النّموذج الراقي لبناء الانسان الذي يتسامى فوق كل اسباب التمزّق والتخلف وقيم الجاهلية كالعنصرية والتكبّر الّذي يحدّثنا عنه رب العالمين في محكم كتابه الكريم كأول سبب من اسباب الفشل بسبب التمزق الذي ينتج عن الخلافات العقيمة فقال تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
انّ ما يُؤسف له حقاً هو ان الكثير من مشاكل ساحتنا ومن خلافاتنا واختلافاتنا مصدرها بعض (المعمّمين) ممن يتصور انه ظلّ الله في الارض وانّه الخليفة الأوحد الذي عيّنه رَبّ العباد في ارضه لتأديب خلقه وتصحيح مسيرة البشرية، وهو الْوَصِيِّ الوحيد على دين الله تعالى وتعاليمه واسلامه! فكلّ الناس جاهلون الا هو، وكلّهم لا يفهمون الا هو، وكلّهم منحرفون الا هو، وكلّهم بعيدون عن الله تعالى رب العباد الا هو، وفي عقولهم كلّهم لوثةٌ عقليةٌ بسبب الانحراف عن العقيدة الا هو، فما الفرق اذن بينكم وبين فقهاء التكفير؟ ما الفرق بينكم وبين الوهابيّين الذين نصبوا انفسهم حكاماً وقضاةً على دين الناس وعقولهم ومعتقداتهم فيكفّرون هذا ويطردون ذاك ويتّهمون الاخر وهكذا؟.
ان مواقفكم هذه سببها أنكم لا تعيشون جوهر النهضة الحسينيّة التي تدّعون أنكم تنتمون اليها، انّه انتماء بالهوية وليس بالحقيقة والا فالحسين (ع) لم يكن كذلك ولم يهدف بنهضته انْ يبشّرنا بمثل هذه الثقافة الفاسدة والعياذ بالله.
انّ الحسين (ع) الذي هو رحمة الله الواسعة وباب نجاة لنا، اعتمد مبدأ التّمكين ولم يعتمد مبدأ التربّص، الاول الذي يعني الاعانة وتهيئة الظروف للنجاح، بينما يعني الثاني المراقبة للدفع باتجاه الفشل في اول فرصة للّشماتة.
وإذا كنّا جميعاً اليوم في ساحة الصراع، ونحن كذلك، فلقد اوصانا امير المؤمنين (ع) بالتكافل بقوله:
{وأَيُّ امْرِىء مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْش عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَى مِنْ أَحَد مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَه}.
تعالوا نتعلم من مسيرة الاربعين المليونية مبدأ التكافل لنقضي به على كل مصادر التمزّق والضعف الذي تُنتجُه العنصرية والاستعلاء والتكبر والاستبداد والأنانية والاعتداد بالنّفس حدّ الغرور وغير ذلك، فلقد علّمنا الحسين (ع) ان نندمج مع المجتمع بلا تكّبر او استعلاء وبلا طبقية او انفصال، لنقدّم النموذج والقدوة والأسوة بالفعل والعمل وليس بالكلام المعسول والشعارات الفارغة التي تناقض السلوك، فقال عليه السلام وهو يحثّ على التكافل {فإنّي الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مَعَ انفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكُم فيّ أُسْوَة}.
بالتكافل نتعايش، وبالتعايش نحمي منافعنا ومصالحنا المتبادلة، وعندها سننهض ونرتقي.
اضف تعليق