الخط للعربي فن تجاوز البعد الوظيفي / التدويني، أي القراءة الأولى وهي الرسالة الإتصالية الأولى بوصفه نصاً قرائياً بعيداً عن الأبعاد الجمالية، ومن ثم تحقق القيم الجمالية (البعد الثاني) من خلال تشريح الحرف واستقرار أصوله وقواعده المعروفة لدينا لجميع الخطوط العربية، تحقق ذلك في كتابات الخطاطين على مدى قرون.
وعند ظهور مبدأ التكوين الخطي توافر على ثلاثة أبعاد (قرائية، جمالية، دلالية)، وكان للقرآن الكريم أثر كبير في تطور هذا الفن ووصوله إلى مراحله التجويدية هذه، وتحوله من بنيته التجويدية إلى البنية الجمالية والدلالية، والتركيب في الخط العربي بحد ذاته استجابة لاشغال المكان، أي المساحة المراد إيجاد التكوين عليها.
ويرتبط التركيب ارتباطاً نوعياً بالخط العربي بعيدا عن الفنون الأخرى إذ أن هناك خطوطاً تستجيب للتركيب مثل (الثلث، الكوفي) بالإضافة إلى الخط الديواني الذي يقبل التركيب في السطر المنفرد وبصورة بسيطة، وهناك خطوط لا تتقبل التركيب؛ لأنها قائمة على الوضوح وتؤدي فقط أغراضاً تدوينية مثل (الرقعة، النسخ، التعليق). فخط الثلث لا يستجيب للسرعة بل للفارق الجمالي والتزييني، والتكوين علاقات بين مفردات الحروف، أي بين مكونات النص وبين خصائص المساحة والنص الكتابي.
ويظهر التركيب في أبسط صورة عندما تنتظم الحروف فوق سطر الكتابة وتلتقي وتتصل بطريقة هندسية، ولا تتم هذه العملية لدى الخطاط بصورتها الصحيحة الفنية في الموضع والتسلسل المناسبين لتشكيل عوامل واحدة فيما بينها . وقياساً على ذلك فأن التركيب في في اللوحة الخطية يعد مرحلة متقدمة لا يصلها الخطاط الا بعد امتلاك ادواته الصحيحة واكتمال خبرته الفنية.
ويلجأ الخطاط الى ظاهرة التركيب لنتطلبات عدة ، أهمها معالجة المساحة التصميمية سواء كانت مربعة او مستطيلة او دائرية لبلوغ أهداف جمالية أو دلالية في أحيان أخرى محافظاً بهذا التكوين على سلامة النص وتسلسله المنطقي وعدم التضحية بقياسات الحروف وقواعدها.
ويجب توفر الشروط والخصائص الأولى للمهمة الاتصالية / التدوينية وهي قراءة النص كونه نصاً لغوياً له دلالاته بهذا الاتجاه، فعليه يجب أن يتمظهر بمستويات عدة، المستوى الأول (اللغة) كوظيفة لفظية، والثاني هو الكتابة (النص التسجيلي المدون)، ويأتي البعد الثالث الفني الجمالي الذي ينتج من خلال تحول النص من المستويات الأولى الى المستوى الأخير وهو الجمالي / الدلالي في التكوينات الخطية بوصفه نقشا جمالي اتحول من مستوى لآخر، وعلى وفق هذا الفهم يتحول النص الى بعد اعلامي زخرفي يظهر من خلال البنية النهائية للمنجز الخطي، تظهره التشابكات الحروفية التي تزين المساحة بكاملها مستمدة ذلك التصور من طاقة الحروف التزيينية وعلاقة فن الخط العربي بالزخرفة الإسلامية (الارابسك) بما تعكسه خطوط الثلث والكوفي ؛ كونها تؤدي وظيفة زخرفية واتساقها مع هذا الفهم في اشغال المكان وتزيينه التي يتعذر على المتلقي قراءتها خصوصاً في التكوينات الثقيلة المكونة من ثلاثة مستويات او اكثر او في التكوينات الايقونية، وبهذا يمكن العودة الى مرجعيات التلقي المحتفظة بطبيعة النص التدوينية؛ كونه ينتمي الى ذاكرة جمعية ومرجعية مثل النصوص الشعرية العربية، أو النصوص القرآنية، وبتتبع تسلسل النص يمكن الوقوف على معناه او نن خلال تماثل الشكل الصوري الذي تتطابق فيه صورة ابشكل مع المضمون النصي (المعنى) في ضوء الأبعاد الدلالية للنص المكونة من اشاراته الداخلية وتظهرها بشكل واضح التكوينات الإيقونية.
إن تحقق الأبعاد الجمالية والدلالية في التكوين الخطي فضلاً عن رسالتها الاتصالية الاولية (البعد التدويني) هي رحلة متقدمة وصل اليها الخط العربي عبر مسيرته التطورية التأريخية، هذه الأبعاد تعكس باطن النص وروحه بشكل ظاهري عياني متحقق على السطح التصويري للوحة، وان هذه الدرجة الجمالية الفنية في الخط العربي هي ما نطلق عليه (درجة الصفر الجمالي) اي انها النقطة التي يصل اليها الخطاط بعد تجاوزه مرجعياته الفنية/ الخطية ومغادرتها لحظوياً في حالة التجلي الفني.
من اجل ما تقدم عرضه من تصنيف التكوينات والتراكيب الخطية، نستبعد تركيب السطر المنفرد ؛ كونه يعتمد السطر المتتابع ذا النص المتوالي وتختفي فيه المستويات التركيبية، اذ لم تتكرر الوحدات المكونة للتركيب (الحروف) الا بشكل محدود تؤسسه حروف السطر، هذا التكرار الذي يعد واحداً من منطلقات تحقق الإيقاع، وأهم مظاهره، باستثناء الايقاع البسيط الذي تحدثه العلاقة التكاملية بين الحروف الصاعدة مثل (الألف واللام) وغيرها من الحروف الأفقية فضلا عن الفراغات الداخلية بين المكونات الجميلة.
انا من حيث التكوينات الثقيلة ذات المستويات المتعددة، اي المتكون من ثلاثة اسطر فما فوق سواء كان اشغالها للمساحات (المربعة او المستطيلة او الدائرية) وحسب المكان والقياس المؤسس لهذا الغرض ، ففي هذه الحالة الأمر يختلف عن سابقه. فالتكوين الخطي الدائري يحقق نشاطا حركيا باتجاهات متعددة تفرضه المساحة المكانية في التركيب، فضلا عما تحدثه الحركات التزينية والاعرابية في خط الثلث تحديدا والتي تجعل من الفضاءات الداخلية فضاءات متحركة باتجاه الداخل التكامل المكاني الذي نؤسسه على السطح الدائري، وكذلك الحال بالنسبة للمسطح (المربع والمستطيل)، اذا ما عرفنا ان التباين الذي تحققه الحركات التي تكتب بقلم اقل سمكا من القلم الذي يكتب فيه النص الكامل، هذا التباين ينتج ايقاعية حركية بالاتجاه التكويني والحجمي.
" فقد يسهم التكرار والايقاع للخطوط او الاشكال بإثارة الإحساس بالحركة والاتجاه والاتجاه الذي يتنشط عبر المنظور من خلال التباين الحجمي "1. وفي هذه الحالة لايمكن ان تمثل (قطع التسويد) تكوينا خطيا ؛ لأنها لاتحقق مضمونا وتقف عند حدود الشكل فقط، حيث انها تمرينات يومية مكونة من حروف مفردة باتجاهات متعددة للأعلى والأسفل وبكافة الاتجاهات فهي تجسيد رمزي لمفهوم (غياب المعنى).
ولابد من توفر المعنى في التكوين الخطي في أقصى حالاته، اذ انه نص لغوي بينما يكون التكوين او التركيب هو تمثل بصري لروح ذلك النص، فهما منتميان لبعضهما البعض وغير مختلفين على صعيد الشكل والمعنى، ولكن بعض التراكيب تعتمد على الشكل دون الانتباه الى المضمون النصي وتطابق الشكل والمضمون وهو ما تسعى اليه التكوينات الخطية ذات المستوى الثقيل والأبعاد الدلالية، فدلالة النص او شفراته الداخلية التي تشير الى ما هو ممثل بصري يمكن ان يتحقق واقعا في التكوين الخطي ، ومن ثم يكون بنية خطبة مشتملة على القراءة الأولية اي البعد التدويني مع توافره على الأبعاد الجمالية.
اضف تعليق