القوة الناعمة مفهومٌ سياسي ظهر إلى الوجود بوصفه فكرةً غريبةَ الأطوار أولاً ثم مرَّ هذا المفهوم بتطورات نظرية بين الأعوام (1990-2004) قبل أن يصبح فكرةً رائجةً في الأوساط الأكاديمية والإعلامية بفضل كتابات جوزيف ناي أحد أشهر الباحثين السياسيين في جامعة هارفارد الأمريكية.
ويتلخص مفهوم القوة الناعمة بإمكانية تحقيق الأهداف السياسية وتغيير قناعات الرأي المضاد عن طريق استعمال وسائل إقناع تتصف بالجاذبية عادةً.
والمفهوم بهذا الوصف مثلما يعد نقيضاً للقوة العسكرية فهو لا يمثل مرادفاً للقوة الدبلوماسية بمعناها السياسي التقليدي؛ لأنه يخاطب في المقام الأول الجماعات الثقافية والاجتماعية لا الجماعات المنظمة تنظيماً سياسياً.
ويعد الأدب ممثلاً بالرواية والفن ممثلاً بالسينما حقلين خصبين للترويج لهذا المفهوم، غير أن الفن، ولاسيما الفن السينمائي (الفن السابع)، بدا كأنه يحتكر حالياً المجال الأوسع في التأثير على الجماهير؛ لأنه يواكب الميل العام لعموم الناس المتجه نحو ثقافة الصورة، وتحديداً ما يتعلق بإنتاج الأفلام السينمائية المرتكزة على مواضيع تحتمل أكثر من وجهة نظر واحدة.
لكن قبل الاسترسال في بحث هذه النقطة ينبغي عزل هذا النوع من الأفلام عن تلك التي تنتج باحترافية عالية لكنها تدخل في باب الحرب النفسية، كالأفلام الممولة من قبل اليمين المسيحي المناهض للإسلام، أو أفلام الذبح والحرق التي تنتجها بين الحين والآخر جماعة داعش الإرهابية.
فلم (محمد رسول الله) الذي يُبث منذ أواخر الشهر الماضي عبر صالات السينما الكندية والإيرانية ما يزال يحظى بإشادة مستمرة في وسائل الإعلام الإيرانية، ومن يتعاطف معها في بلدان عربية وأجنبية. وما يزال هذا الفلم والقائمون على انتاجه وتسويقه يتعرضون إلى هجمة شرسة من قبل وسائل إعلام عربية كثيرة تدأب يومياً في الحط من قيمته، وتصفه بأقذع النعوت مستمدة من فتاوى دينية.
هذا الفلم يصلح لأن يكون شاهداً حياً لبيان المقصود من القوة الناعمة. صحيح أن هذا الفلم ما يزال في مرمى سهام الإعلام الحكومي المناوئ لإيران كما ذُكِر آنفاً لكن الأمر يبدو مختلفاً إلى حد ما داخل بعض النخب الاجتماعية والثقافية العربية المتحررة من سلطان أنظمتها السياسية والتي لا تلقى بالا لنقمة الجماعات الدينية الناظرة لكل منتج إيراني بوصفه خطرا شيعيا. وخير شاهدين على هذا الموضوع عمودا رأي لمثقفين عربيين بارزين أحدهما من المملكة السعودية، والآخر من جمهورية مصر العربية حيث الأزهر الذي أفتى بحرمة مشاهدة الفلم قبل أن يشاهده انسياقا وراء مراكز الإفتاء السعودية...
لقد اتفق كاتبا العمودين وهما داوود الشريان وأحمد عبد المعطي حجازي على مسألتين اثنين تمثلت الأولى في انتقادهما لرجال الدين في بلديهما، هؤلاء الذين ما برحوا يقفون موقفا مضادا من عموم الناس، ويتماهون مع الموقف الرسمي للسلطات الحاكمة فتكون النتيجة المحتومة غالباً أن ينظر لرجال الدين هؤلاء نظرة المزدرى إليه من قبل الجمهور الذي تزدحم ذاكرته بفتاوى سابقة لم تمنعه من الانغماس بالفن؛ هذا الفن الذي وجد الناس فيه خير معبر عن أفكارهم وعواطفهم مثلما وجدوا في فتاوى تحريمه خير معبر عن أفكار ومصالح الساسة والسلاطين.
أما المسألة الثانية التي اتفق عليها الكاتب السعودي ونظيره المصري فتتعلق بالتعاطف النسبي مع "خصومهم" الإيرانيين، ويمكن الدلالة على هذه المسألة عبر الاقتباس المباشر من مقالتيهما، يقول أحمد عبد المعطي حجازي: ((يكفى أن نتابع ما يدور الآن حول الفيلم الذى انتجه الإيرانيون عن محمد عليه السلام وما يقوله عنه بعض الأزهريين لنرى أنهم تجاوزوا كل الشروط التي لابد من مراعاتها في تقييم الفيلم والحكم عليه صواباً وخطأً وتحليلاً وتحريماً)). ويقول داوود الشريان: ((الفيلم الإيراني لا يُظهِر ملامح النبي الكريم، ويكتفي بظل جسمه وظهره، ووجه الرسول لم يظهر طوال الفيلم، فضلاً عن أن صوته لم يُسمع إطلاقاً... لكن بعض المؤسسات الدينية نظر إلى الفيلم من زاوية سياسية، وحكم عليه لأن مخرجه إيراني...لا شك في أن الهيئات والمؤسسات الإسلامية في العالم العربي تفكر خارج الزمن، وهي تعيق نقل الأجيال الجديدة عظمة وسماحة دينها وثقافتها بوسائل عصرها)).
كلمة ذات صلة: الفن ممارسة السياسة ولكن بوسائل أخرى..
اضف تعليق