اذا كانت أميركا تمتلك تفوقاً على الصين في مجال سر المعرفة التكنولوجية للذكاء الأصطناعي، وحافزاً أقوى لشركاتها الخاصة لتطور تقنياتها تبعاً لفلسفة السوق الرأسمالي المفتوح وليس السوق الأشتراكي المفتوح كما هو الحال في الصين، فأن الأخيرة تمتلك تفوقاً يتيحه لها نظامها السياسي والقانوني المصمم لضبط المجتمع وأحتكار المنافسة...

أذا كانت أميركا تمتلك تفوقاً على الصين في مجال سر المعرفة التكنولوجية Knowhow للذكاء الأصطناعي، وحافزاً أقوى لشركاتها الخاصة لتطور تقنياتها تبعاً لفلسفة السوق الرأسمالي المفتوح (وليس السوق الأشتراكي المفتوح كما هو الحال في الصين)، فأن الأخيرة تمتلك تفوقاً يتيحه لها نظامها السياسي والقانوني المصمم لضبط المجتمع وأحتكار المنافسة ووجود سلطة نهائية مطلقة للمؤسسة السياسية الصينية،فضلاً عن تفوقها الديموغرافي. 

هذا، على الأقل، ما كشف عنه آخر مقالَين في هذه السلسلة التي تحاول الاجابة عن القوة العظمى في مجال الذكاء الأصطناعي وأمكاناتها على التنافس مستقبلاً. بقي هناك عامل خامس أضافة للتكنولوجيا، والاقتصاد، والديموغرافيا، والسياسة الا وهو الثقافة الاجتماعية.

الثقافة الأجتماعية

بغض النظر عن تخصص الكاتب وولعه بدراسة الثقافات الاجتماعية المقارنة، فأن التباين الواضح بين ثقافتي الصين الجماعية المتصلبة، وأميركا ذات الثقافة الفردانية الرخوة قد يمنح الصين ميزات أضافية في مجال تطوير الذكاء الأصطناعي نظراً لتقبله أجتماعياً. معلوم أن المجتمعات الصلبة والجماعية أكثر أهتماماً بترتيبات الأمن الجماعي وأكثر أستجابةً للقلق من أي تهديد يمكن أن يُستشعر لنظامها الاجتماعي (الصلب). أن التغييرات الاجتماعية والأمنية التي أحدثتها ثورة التكنولوجيا الرقمية وأستخدامات الذكاء الأصطناعي الحالية (والممكنة) تثير كثير من القلق الاجتماعي العالمي وليس في الصين حسب.

خذ مثلاً ما يحصل لاطفال اليوم نتيجة أدمان العاب الكومبيوتر وأجهزة الموبايل المختلفة. لقد سنّت الصين قبل أيام قانوناً جديداً يحدد الوقت المسموح به للأطفال دون سن الثامنة باستخدام الأجهزة اللوحية بمدة 40 دقيقة يوميا، واقتصارها على محتوى تعليمي مناسب لأعمارهم، في حين يخصص 60 دقيقة لمن هم في سن الثامن.

أما من تتراوح أعمارهم بين 16 و 18 عاما فيسمح لهم بساعتين كحد أقصى للاستخدام اليومي. وتتيح برامج المراقبة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي وسيطرة الدولة على شركات التكنولوجيا في الصين مراقبة فاعلة لتنفيذ مثل هذه القرارات التي قد يرحب بها معظم آباء الصين (والدول ذات الثقافات المشابهة كالعراق) في حين قد يُنظر لها في أمريكا على أنها تحد من حرية الأفراد وخياراتهم فيما يخص الأفضل لأطفالهم. 

وفي الوقت الذي قد يستغرب الأميركان من تقبل الصينيين لهذه المراقبة الحثيثة والمتواصلة ليل نهار وفي كل مكان لتحركاتهم وأنتهاك خصوصياتهم، وملفاتهم الشخصية، فأن الصينيين قد يستغربون في المقابل من هذه المعدلات العالية للجريمة في أمريكا وعدم قيام الحكومة بواجبها لمراقبة وحماية الشوارع! كما يستغربون من تقبل الأميركان لما يعدّونه أنهيار لقيم وتقاليد المجتمع الأمريكي.

علينا هنا أن نلاحظ أن لهذا التصلب الصيني فوائد تكنولوجية أيضاً، فمثلا وبسبب نشر الحكومة الصينية لكاميرات المراقبة في كل الزوايا والشوارع وبكثافة شديدة فأنها ستكون مهيأة بشكل أفضل لدخول عصر القيادة الذاتية للسيارات (والتي نحن على مشارفها الآن) مقارنةً بأمريكا، لأن لديها بنية تحتية أفضل لتكنولوجيا الذكاء الأصطناعي في هذا المجال، أذ لا يمكن ضمان القيادة الآلية الآمنة للسيارات دون وجود رقابة على مدار الساعة والدقيقة لكل الزوايا والشوارع والساحات في المدن وهو ما تمتلكه الصين حالياً، مع هذا ففي الوقت الذي قد يرى الأميركيون في تفاخر الرئيس الصيني مؤخراً بأن «الحزب يقود كل شيء هنا بما فيها: الحكومة والجيش، والتعليم والمجتمع، والشرق والغرب والشمال والجنوب» قد يرون في هذا التصريح تعبير مكروه ولا يمكن تحمله للديكتاتورية والشمولية، فأن جزء كبير من الصينيين قد لا يرون في ذلك الا توكيد لسلطة الدولة التي يريدونها (كما العراقيين) قوية لتحمي مجتمعهم. 

من هنا نفهم لماذا يكثر الطغاة، بل ويتم الأحتفاء بهم في مجتمعات الشرق، مثلما يكثر (الانفلات) في مجتمعات الغرب.

مصلحة الفرد

أنهما ثقافتَين مختلفتَين تماماً تخشى أحداهما من أنهيار المجتمع لذا تقدم مصلحته على مصلحة الفرد، في حين تخشى الثانية من أنهيار الفرد،فتقدم مصلحته على المجتمع. والكاتب هنا ليس بصدد تقييم أي الثقافتين أفضل، لكن يمكن القول أن ثقافة المجتمع الصيني قد تتيح بيئة عمل أفضل لتطوير الذكاء الأصطناعي الذي يمكن أستخدامه في ضبط المجتمعات والتحكم بها. 

مقابل ذلك فأن علينا أدراكهنا أستسمح القارىء أن يفكر للحظات بعدد الاختراعات الكبرى التي جرت في الغرب مقابل الشرق! أن المجتمعات الصلبة (كالصين والعراق وسواها من مجتمعات الشرق) أقل تقبلاً وتشجيعاً للأبداع والأختراع لأنها أقل تقبلاً للتغيير والخروج عن النمط السائد. لذا فليس من المتوقع أن تتطور في الصين مجالات الذكاء الأصطناعي الابداعية الأخرى التي لا تحتاجها أو تسندها الدولة.

لنأخذ مثلاً برنامج الذكاء الأصطناعي ميرلن Merlin المسموح بعمله في الصين ونقارنه ببرنامج الذكاء الأصطناعي المشهور تشات جي بي تي Chat Gpt الممنوع في الصين حالياً مثلما كان الستلايت والموبايل ممنوعاً في العراق سابقاً. فحينما سألت البرنامج الأول المسموح بعمله في الصين «كيف يمكن تغيير الحكومة الصينية»؟ أجابني: أنه لا يمكنه مناقشة أي سؤال يتعلق بتغيير الحكومات. 

أما حين سألت برنامج تشات جي بي تي عن كيفية تغيير الحكومة الأمريكية سرد لي بشرعة كل الخطوات التي يمكن القيام بها لعمل ذلك. بالتالي فأن لبرنامج الأمريكي سيمكنه من خلال التفاعل مع الجمهور ومناقشة كل شيء دون قيود من تطوير قدراته وقابلياته على التعلم وتحسين أجاباته، في حين لا يمكن للبرنامج الصيني الأستفادة من ميزة «الحرية» هذه. لقد أردت من هذه التجربة البسيطة أظهار المحددات الثقافية والسياسية التي تعيق تطوير الذكاء الأصطناعي في الصين.

ان الخلاصة التي أريد الخروج بها من هذه السلسلة هي أن الذكاء الأصطناعي سيكون حتماً أهم مجال من مجالات التنافس الجيوستراتيجي بين الصين وأمريكا وأن من يمتلك التفوق فيه سيبقي قبضته قوية على المسرحَين السياسي والاقتصادي العالمي حتى أن التفوق النووي لأي دولة لن تكون له تلك الأهمية مستقبلاً. وعلى الرغم من التفوق التكنولوجي الواضح لأميركا على الصين في مجال الذكاء الاصطناعي فأن الصين قادمة بقوة بخاصة في مجالات الذكاء الأصطناعي التي تضمن للحزب الشيوعي الصيني أدامة سيطرته على المجتمع الصيني من جهة، وتفوقه على الساحة الدولية من جهة أخرى. 

صحيح أن الذكاء الأصطناعي يتيح كثير من الأمكانيات لتطوير قدرات الجيوش والجماعات الصغيرة بحيث تشكل تهديداً للجيوش الكبرى من خلال الأستفادة من تقنيات الطائرات المسيرة.

نهاية العالم

لكن كلا من أمريكا والصين تمتلكان الكثير مما يمكن أن يجعل نهاية العالم أقرب من أي وقت مضى. لذا يجب التعامل مع هذا التهديد الوجودي بحذر أكبر من تهديد الأسلحة النووية. ومثلما يتيح التطور الهائل للذكاء الأصطناعي قدرات تنافسية وتدميرية هائلة فأنه يتيح أمكانات تعاونية كبيرة أيضاً. وهنا أستشهد بأنموذج «التنافس التعاوني» الجاري حالياً بين شركتي آبل Apple الأمريكية وسامسونج Samsung الكورية الجنوبية. فعلى الرغم من أن الشركتين تتنافسان بشدة للسيطرة على سوق الهواتف الذكية في العالم الا أن معظم مكونات هواتف آبل تُصنّع في سامسونج ولم يسبق للأخيرة أن هددت بأيقاف تصنيع تلك الأجزاء للفوز بالمنافسة العالمية.

 راجع كتابي الموسوم ( ثقافة التصلب:منظور جديد لفهم المجتمع العراق) لفهم المقصود بهذه المصطلحات

اضف تعليق