الحاضر وليس العكس ندرك الحاضر بدلالة المستقبل، والسبب بذلك أن الحاضر لحظة زائلة سريعة تحسب للمستقبل والماضي معا في تجاذبهما الحاضر وموضعته كلا لوحده به، وكل حاضر سيكون بعد لحظات ماضيا ايضا. ويكون بداية لمستقبل ايضا، وبهذا نكون نعيش علاقة الماضي بالمستقبل من غير توسيط نقطة زائلة بلحظة...
يذهب معظم فلاسفة اليونان القدماء قبل سقراط منهم الرواقيين يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس أنهم يعتبرون الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني ارضي يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل. بل تحقيب الزمان الارضي هو الماضي والمستقبل فقط ولا زمن حاضر يتوسطهما.
هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده افلاطون وارسطو أذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر - هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين، - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وأدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي غير منظور في حاضر متحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية - لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان ." 1 العبارات المحصورة بين شارحتين هل لكاتب المقال.
بداية طالما كانت الحركة والتغيير هما سمتا كل موجود بالعالم منذ هيراقليطس، فأن حركة الحاضر غير المتعينة كقطوعة زمنية لا ادراكية أنما تنسحب علي كل شيء يحكمه التغيير وعدم السكون وفي المقدمة يكون دلالة الماضي بمقايسته بالحاضر الذي لا وجود زماني له فهو بفهم بارمنيدس الماضي حركة تاريخية يحكمها زمان متحرك وليست سكونا زمانيا مدركا، لأن حركة الماضي تعاكس المستقبل الذي يحاول تذويت الحاضر به وموضعته داخله.
وطالما النقلة الحركية لا تبدأ من حركة كما في تعبير بارمنيدس، فهذا يلزم عنه أن يكون الحاضر هو سكون يمكن ادراكه وهو استنتاج لا يقبله العقل قبل الفلسفة بدلالة الزمان مفهوم كلّي مطلق لامتناهي ليس له صفات ادراكية مستقلة ثابتة ولا نسبية وليس له ماهية يمكن ادراكها. والآنية الحاضرة ادراك زماني بدلالة حركة الاجسام والموجودات في الطبيعة وليس بالادراك المادي المكاني الساكن لها.
لأن الحاضر قطوعة زمنية تحقيبية من زمن مطلق لانهائي لا تحده حدود ولا يتقبّل التحقيب المحال زمانا في تحديده كمدرك لانهائي سرمدي ازلي. وهذا المعيار لا يستثني الماضي كزمان وليس انثروبولوجية تاريخية في الماضي ولا يستثني المستقبل بدلالة كونهما قطوعات زمنية وتحقيب تاريخي متحرك ايضا لا يمكن ادراكه كونه يتسم بالحركة التي لا يمكن رصدها وتعيينها بغير دلالة حركة جسم مادي يتحرك في الحاضر. هنا يتوجب علينا الانتباه التفريق بين قولنا الماضي كتاريخ انثروبولوجي عاشه الانسان كزمن متوقف أصبح ثابتا فهو يتسم بالسكون اكثر من الحركة، بخلاف فهم أن يكون التاريخ زمانيا حركة لها تأثير مباشر في كل من الحاضر والمستقبل. الماضي كزمن هو دلالة في فهمنا الحاضر وفهمنا الماضي هو بدلالة الحاضر له.
وفي حال ذهبنا مع بارمنيدس اعتباره الحاضر الزماني لحظة تتوسط الحركة والسكون ويتعذر رصدها ادراكا زمانيا لذا فهي نقلة وهمية، فهذا يعني أن الحاضر وجود غير وهمي كلحظة تحقيب زماني زائل، وأهم ميزة لقطوعات تحقيب الزمان الارضي هو أن الزمان كلية ازلية سرمدية جوهرية تحكم كل شيء بالوجود وهو غير مدرك لا بالصفات ولا بالماهية. أي أن زمان الماضي وزمان الحاضر وزمان المستقبل ثلاثتها تعبيرات عن قطوعات زمنية تحقيبية لا يمكن ادراكها كمفاهيم مجردة عن دلالاتها بغيرها من مواضيع الادراك، ولا كمواضيع مستقلة بدلالة عدم امكانية ادراكنا الزمان كمطلق ازلي ليس له حدود ولانهائي ولا يتسم بالماهية والصفات بمعزل عن حركة الاجسام والاشياء...باستثناء اننا ندرك هذه القطوعات الزمانية واختلافاتها بدلالة حركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر والكواكب الاخرى وقبل كل هذا حركة الاجسام والمدركات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها التي بدلالتها جميعا ندرك الزمان في تحقيبه الزماني لا في تحقيبه الوقائعي تاريخيا كحوادث يلازمها زمن حدوثها الذي يجعل من حضورها الآني ماضيا متوقفا.
بارمنيدس" يرى التغيير لا يصدر عن السكون، كما أن النقلة الزمانية النوعية بالدلالة لا تبدا من الحركة القائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا هي خارجة عن كل زمان."2. تعبير بارمنيدس هنا صحيح لكنه يناقض نفسه. فعندما يقول بارمنيدس النقلة لا تبدأ من الحركة، فهو يجعل من ثبات الحاضر وسكون الآنية مقياسا يمكن ادراكه في حركة الاشياء والموجودات وكذلك يمكن أعتباره غير وهمي زمانا بدلالة أن حدسنا له كوسيط بيني ندرك الماضي وبه ونحدس المستقبل. والتناقض مع امكانية ادراك لحظة الحاضر سكون نجد بارمنيدس يؤكد ليس هناك نقلة حركية لا يسبقها حركة حسب تعبيره، فلماذا لا يكون الحاضر وفق هذا المعيار سكونا مؤقتا حركيا يمكننا ادراكه وليس وهما لا وجود له فهو ايضا حركة ساكنة غير مدركة؟ الشيء الاخر اذا اعتبرنا الماضي سكونا لا ينتج عنه حركة فكيف يتسنى لنا ادراك المستقبل بدلالة توسيط الحاضر وليس بدلالة ارتباط الماضي به؟ لا يمكننا تجسير الماضي بالمستقبل من غير انتقالة الحاضر وتشظيتها الزمانية المنقسمة على نفسها بين ماض ومستقبل وهو ما يرفضه ارسطو تماما كما يتوضح معنا لاحقا.
من المشكوك به اننا نستطيع ادراك المستقبل بدلالة الماضي في الغاء حلقة التوسيط التجسيري بينهما الذي هو نقلة الحاضر حتى لو كانت لحظة انتقالية لا يدركها العقل زمانيا لكنها موجودة فيزيائيا بدلالة الزمن نفسه..بارمنيدس الذي لا يرى الوجود باكمله حركة دائبة من الحركات والانتقالات والتغيرات كما هو عند هيراقليطس نجده يلغي الحاضر الآني لأنه حركة وهمية لا تدرك لا في دلالتها الذاتية ولا في دلالة تذويت المستقبل لها في جذبها نحو تكوينه الداخلي، وهي ليست أكثر من نقطة انتقالية تتوسط الحركة والسكون. لذا هذه نقطة الحاضر خارج حسابات الزمان على حد تعبير بارمنيدس وليست زمنا.
وعليه يكون الحاضرأو الآنية وهما تصوريا لا وجود حقيقي له ويذهب معه افلاطون وارسطو بهذا التوجه. هنا يبرز تساؤل كيف يتسنى لنا ادراك المستقبل بغير دلالة الحاضر؟ وكلاهما حركة زمانا وليس حركة تحقيب تاريخي أخذت زمنها الساكن كماض ثابت فاقد حركية الزمن . المستقبل لا يمكن ادراكه بدلالة الماضي دون توسيط الحاضر بينهما. لكن اذا ماكان أجماع اكثر من فيلسوف أعتبار الحاضر آنية وهمية لا وجود حقيقي لها حتى لو كانت تمثل افتراضا أنها حلقة وصل تربط دلالة الماضي بدلالة المستقبل. فكيف يكون الخروج من هذا المأزق؟
نجد من المهم الانطلاق من حقيقة أن كل شيء في الوجود يجمع الحركة والسكون معا زمانا وبذا تكون علة امكانية ادراك الزمن الحاضر واردة كتحقيب زماني. وفي اسقاطنا هذه الحقيقة الفيزيائية على الماضي والحاضر والمستقبل زمانيا، سيكون معنا تجريد الحاضر من صفة تلازم السكون والحركة فيه،هو أعدام ضمان ربط حركة الماضي بحركة المستقبل.فالماضي لا يمكن أن يكون دلالة المستقبل به دونما انتقالة لحظة الحاضر التوسيط في تجسير العلاقة بينهما.
الحقيقة التي لا يمكننا تصورها بسهولة أن الماضي زمانا لا يلد الحاضر زمانيا لكنه بمستطاعه أن يلد الحاضر تاريخيا مجردا عن زمانيته الماضية، وأن الحاضر لا نفهمه الا بدلالة الماضي والعكس وارد، والحاضر حين يكون نقلة نوعية وهمية زمانا هو اننا ندرك المستقبل بدلالة الحاضر وليس العكس ندرك الحاضر بدلالة المستقبل، والسبب بذلك أن الحاضر لحظة زائلة سريعة تحسب للمستقبل والماضي معا في تجاذبهما الحاضر وموضعته كلا لوحده به، وكل حاضر سيكون بعد لحظات ماضيا ايضا. ويكون بداية لمستقبل ايضا، وبهذا نكون نعيش علاقة الماضي بالمستقبل من غير توسيط نقطة زائلة بلحظة تسمى الحاضر وهو محال. وهذا ما لايمكننا تصوره زمانا فلسفيا لكنه في حقيقته الفيزيائية هو واقعة حاصلة.
الزمان في التحقيب التاريخي ليس تاريخا انثروبولوجيا متجردا عن زمانيته بل هو تحقيب زمني أصلا ولا علاقة تربطه الا بتبعية حركة الاجسام بالطبيعة وحركة الشمس والارض والقمر في المجرة الشمسية درب التبانة. والزمان الارضي يقاس بمدركاتنا لحركة الاجسام والاجرام. لذا يكون التحقيب الزمني على الارض هو تحقيب زمني ارضي من أجل تنظيم الحياة والا بغير هذا الفهم نصطدم بحقيقة الزمان وحدة كلية لايمكن تقسيمنا له بالزمن نفسه، تقسيم الزمان ارضيا في تعاقب الليل والنهار والاسبوع والشهر والسنة والفصول.الحقيقة التي نعيشها ولا نستطيع التثبت منها أن كل شيء في الوجود هو سكون ومتحرك معا نحو الزوال والاندثار مخليا موقعه لما بعده، كما يكون كل متحرك مدرك لنا بدلالة سكونه النسبي في طريقه الى زوال. وقولنا مع بارمنيدس لا تنتج الحركة من سكون سابق عليها بل من حركة أخرى تجانسها سابقة عليها يؤكد ما سبق لنا ذكره أن كل شيء بالوجود هو ساكن ومتحرك زمانيا. وحركة الاشياء تنتج عنها تغيرات حيث يصبح ما هو حاضر هو في حقيقته الحركية مستقبلا زمانيا بمجرد تعبيرنا عنه في الحاضر الذي نعيشه، ويصبح ماضيا بدلالة المستقبل له.
وهذا يرجعنا الى الحقيقة التي أنكرناها على الفلاسفة الاغريق بأن الحاضر آنية غير حقيقية وهمية. لكننا بغير هذه الآنية الوهمية في حاضرنا لا يمكننا معرفة الماضي ولا ادراكنا صنع المستقبل بافكار الحاضر ومنجزاته المادية بالحياة. ..بضوء هذا كيف يمكننا التمييز والاثبات في حقيقة التناقض أن الحاضر لحظة وهمية، وبنفس الوقت الذي يكون فيه الحاضر دلالة ادراكية لمعرفة تحقيب الزمان الى ماض وحاضر ومستقبل.؟
كيف يدرك العقل العدم؟
يذهب ارسطو (الى أن الآن أي الحاضر لا يوجد فيه حركة ولا سكون ) 2، اول ما يتبادر في الذهن بضوء تفسيرنا العبارة هو التساؤل كيف يمكننا اعدام الحركة والسكون في الحاضر اللتين هما خاصيتين زمانيتين غير مدركتين كموضوع للعقل؟ أي حينما تكون الآنية الحاضرة وهما غير مدرك عقليا كيف نضفي عليه صفات ما هو مدرك في الاجسام المادية هما صفتي الحركة والسكون؟ بعبارة أخرى كيف يمكننا أعدام عدم غير متعين ادراكا علما أن العدم لا يمكن أعدامه بفاعل ولا يمكنه أعدام نفسه ذاتيا كون العدم خلاء غير موجود مدرك ولا مدرك زماني ايضا . لكنه دلالة موت الكائنات الحيّة واندثارها. ونحن بهذه الحال نذهب الى أن كل مدرك بدلالة غيره يكون مدركا هو ايضا بالسببية الترابطية بينهما. الادراك بالدلالة هو شكل ثان من الادراك المادي المباشر لمواضيع الطبيعة وموجودات العالم الخارجي من حولنا.
أن ما يجعل من عدم ادراكنا الحاضر كونه وهم لا حركة ولا سكون، بل هو آنية انتقالية وهمية حسب بارمنيدس وافلاطون وارسطو، سببه أن انتقالة الآنية الحاضرة الى ماض مدرك في نفس وقت اندغامها في مستقبل غير مدرك وتصبح بذلك وهما عدميا متشظيا بدلالة غيره، وهذه التشظية أنما تكون بهذا انتقالة اسرع من ادراك العقل رصد زمانيتها، والشيء المهم أن زمانية انتقال لحظة الحاضر الى تشظيه المنقسم بين ماض انتهى ومستقبل افتراضي غير مدرك قيد الصيرورة المستمرة، يصبح الحاضر بذلك عدما لا يتحدد ادراكيا بصفات زمانية هي الحركة والسكون. وهذا مناف لبينية الحاضر تجسيره علاقة الماضي بالمستقبل من الناحية الزمانية في نفس وقت أن يكون وهما ادراكيا للعقل من الناحية الفيزيائية. الزمان الكلي كمفهوم مطلق وقطوعات التحقيب الزماني له كتاريخ يمكن ادراكه هي في حقيقته غير مدرك وزائف لأن الزمان لا يدرك بغير دلالة الاجسام المتحركة. والتاريخ دلالة ثابتة فاقدة لحركة تاريخانيتها المطلوبة.
عندما اقول بيدي أحمل كتابا اكون في اللحظة الآنية في قولي تلك العبارة اصبحت خارج ادراكها كحاضر للمتلقي بدلالة انشطار العبارة الى ماض مستقل ومستقبل افتراضي مستقل، وهذه اللحظة الانشطارية لا يدركها العقل كوحدة حاضرة مستقلة بذاتها لأنها محكومة بحركة غير مدركة وسكون غير موجود في وهم عدمي غير موجود. لذا تكون وهمية الحاضر لا يمكن ادراكها لكن الأهم من ذلك أنها تبقى دلالة تتوسط الماضي والمستقبل سواء أدركها العقل أم لم يدركها.
الحركة والسكون صفتا كل شيء مدرك
في التاكيد على أن الآنية لا تقبل القسمة على نفسها حسب افلاطون وارسطو، وأن الحركة في الآنية مستحيلة كما هو السكون معدوما فيها، فعلى أي أساس معياري أقمنا حكمنا على أن الآنية وهما زمنيا لا يمكننا ادراكه، وهي ليست موضوعا لادراك حتى خيالي غير فيزيائي كونها في تجريدنا لها من صفتي الحركة والسكون انما جعلناها ( وهماعدما) والعدم لا يدرك فهو دلالة افتراضية تلازم أفنائها الموجودات الحية في الطبيعة وحياة الانسان والعدم لاشيء موجود ولا مدرك بغير دلالته الافتراضية الافنائية للموجودات الحيّة. يورد المفكر عبد الرحمن بدوي مايلي ( الآن هي حدين زمانيين – يقصد الماضي والمستقبل - فاذا أمكن شيئا أن يتحرك في الآن أو أن يسكن فيه، فأن الشيء الواحد المتحرك في الآن متحركا وساكنا معا، متحركا بوصفه في نهاية أحد الزمانيين ساكنا عند بداية الاخر،- لكنه بدوي نجده يستدرك في تكملة قوله - الحركة والسكون في الآن غير ممكن ).3 سبق لي أن اوضحت اننا لكي نخلص من فرضية أعتبارنا الحاضر أو الآنية وهما زمنيا لكنه واقع فيزيائيا، هو في أن نعتبره على طبيعته الفيزيائية يجمع بين الحركة وبين السكون. وبخلاف هذا الفهم نعود الى نقطة البداية التي تتعامل مع الآنية ك(عدم) غير مدرك وليس وهما غير مدرك ويوجد فرق بين المعنيين. العدم لاوجود مدرك ولا هو وهم افتراضي بل هو دلالة مجردة تلازم افنائها كل حي بالحياة والطبيعة.. بينما الوهم لا يمتلك الصفات الافنائية للموجودات، وأن نعتبر الوهم عدما هو مجاز لفظي يساوي بين الوهم والعدم وهما مختلفين.
عندما نخلع على الآنية أو الحاضر صفة الحركة لا يعني هذا أنه أصبح مدركا عقليا موجودا، بل أن حركته أصبحت جزءا من ماض انتهى حاضرا، وعندما نقول الآن هو سكون يسبق مستقبلا غير مدرك فاننا ايضا وضعناه وهما وجوديا.. لكن الاهم من كل هذا أن الشيء الذي تجاهله عبد الرحمن بدوي هو أن الحاضر في حال حكمنا عليه زمانية وهمية ونقلة مؤقتة لا يمكن ادراكها، فأنما بهذا نعتبرها ليست وهما غير موجود لانه غير مدرك عقليا. فهي (الآنية) مرحلة نقلية منقسمة على نفسها بين قطبين متعاكسين هما الماضي من جهة والمستقبل من جهة اخرى، لذا فهي ليست عدما افتراضيا وأنما وهم غير موجود.
فالآنية بعدم ادراكنا التشظي المتعاكس لها بين ماض ومستقبل، أنما تكون الآنية دلالة افتراضية زمنيا في تسهيلها لمدركاتنا بين فهم الماضي وادراكه وفهم تشكيل المستقبل وادراكه. لذا فهي أي الآنية تجمع بين الحركة والسكون معا خارج أدراكها العقلي في أعتبارها وهما وهذا لا يلغي وجودها الزماني الفيزيائي، فمدركاتنا ماهية الزمن لا يدركها العقل وغير متوفرة ولكن هل ممكنا أعتبارنا الزمان وهما لعدم امكانية ادراك العقل لخصائصه وماهيته المنفردة ونعتبره وهما وهو يدخل في دقائق الاشياء التي نتعامل معها في الطبيعة والحياة كون عجز العقل ادراكه الزمن كموضوع؟. لا ليست الحقيقة بهذا التبسيط المخل.
الزمان وحركة الجسم
المعتقد الذي لم يفارق ارسطو هو في أعتباره الزمان هو مقدار حركة الشيء وليس هو حركة. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحدد بالزمان ) 4، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب الى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية تلك الحركة، بقوله أن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم او الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير ، بينما يكون الجسم او الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم ان الزمن ليس ما يدرك بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها كون الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها داخل الزمن. بعبارة ثانية اوضح اراد ارسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للاشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم وهو محق.
وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمان والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله. الزمن مقدار حركة جسم معين لكنما الزمان ليس حركة مدركة بغير دلالة حركة الجسم.
ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.
يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا) 5، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله ( ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية).6
نتساءل هنا بدورنا:
- هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار " كمي" أم بمقدار عددي ؟ ارسطو نقل عنه بدوي ذهب نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟.
- هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه.
- واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا، لكن هذا التمايز ما اوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه عبد الرحمن بدوي؟. كيف يتم ربط العدد كفكرة أو كموضوع بالآنية الزمانية؟ الاجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.
الآن بين التوسيط وعدم الانقسام
هل الآن حاضر وهمي أم حقيقي غير قابل للقسمة؟ بحسب ارسطو يذهب الى تحديد الآن بالمحددات التالية :
- الآن ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات.7
- الآن لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم 8
- الآن لا يوجد فيه حركة ولا سكون .9
الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الان جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل. صحيح جدا أن الانية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الازلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا الى آنات لا نهائية. مقولة ارسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان ) مقولة النقص بها انها تتعامل مع الزمان الكوزمولوجي وليس تعاملها مع الزمان الارضي المختلف عن الزمان الكوني. وهذا كان سابق على معرفة ارسطو أن فيزياء الزمان تضع حدا فاصلا بين زمان ارضي وزمان كوني ازلي مطلق، فهما يحملان دلالة زمنية واحدة كنوع ويفترقان بماهية وكيفية مغايرة وصفات ايضا.
من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا متجانسا مع زمان كلي سرمدي ازلي كقطوعة زمنية مشتركة مع الكلية الزمانية بالصفة النوعية، مما يترتب على عدم المجانسة أن الآنية ليست زمانا وأن تكون ماهية ليست زمانية وزجها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما أن الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية للزمان.
الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة ازلية لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير ارسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان ) هو توكيد ارسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف آلية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز ارسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الارضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الاجسام بدون معرفته المرجعية الفيزيائية الحديثة التي تؤكد ما ذهب له..
اما تعبير ارسطو نقلا عن بدوي بأن الآن لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم، فهو يحمل تساؤل مررنا به اكثر من مرة هو اذا كانت الآنية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بأن الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا، في نفس وقت تجاهل أن الآنية فيزيائيا شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الارض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكال عدم مجانسة الانية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الارضي بأختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.
ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان في الطبيعة منها قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه أو في عدم ادراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الان ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفيا، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا بالدلالة قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.
اضف تعليق