قد يختار الله الغني من عباده المؤمنين وفداً يفدون إلى بيته الحرام فيدخلون في رحاب ضيافته استجابة لدعوة خليل الرحمن الذي دعا الناس بأمر الله (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) فأعظم الناس حظاً من عرف وفادته إلى من؟ وكيف يحصل على شرف الضيافة الرحمانيه؟ فمن يقصد تلك الديار المقدسة لا بد أن يلتفت إلى فلسفة الحج ومعرفة أحكامه وشروط قبوله ورعاية آدابه حتى يزداد نوراً وهدى على نهج سيد المرسلين واله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
دعوة خاصة وصك مفتوح
شاءت الإرادة الإلهية أن يسكن عند بيته الحرام أحبّ خلقه إليه فأمر الخليل بالرحلة إليه وأن يسكن هاجر وابنه إسماعيل عند بيته الكريم وهكذا بدأت الرحلة برفقة أمين الله جبرائيل فكان إبراهيم كلما مرّ بأرض خضراء ينعة فيها الكلأ والماء قال لجبرائيل: هنا، فيقول جبرائيل: لا حتى وصل إلى ذلك الوادي اليابس الخالي من الأنس والطير فقال جبرائيل هنا يا إبراهيم فسلم إبراهيم نفسه وأهله وأولاده لإرادة الله تعالى.
وكان لسانه وقلبه داعياً رب العزة والجلالة (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (إبراهيم: 37).
وبدعائه بيّن وضع الوادي الذي يرق القلب له حيث لا مأوى يأوي إليه ولا شجر يستظل به و زرع يقتات منه ولا ماء يقوى به ويدفع به العطش ولكن مع ذلك كله له الشرف التام حيث هو بجوار بيت الله الذي شرفه سبحانه واختاره أن يكون باسمه يأوي إليه عباده لأداء مناسكهم ولإظهار ولائهم، ثم أعقب الدعوة بذكر الغاية من السفر والرحيل رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) ودعا لهم لرفع الوحدة والوحشة عنهم حتى تفد إليهم أفئدة من الناس وتهوي إليهم قلوبهم مع دعوة الرزق المقومة لبقائهم واستمرار حياتهم وقد استجاب الله هذه الدعوة من القلب الحنون فجعل المكان كعبة وقبلة للوافدين ومكاناً يتنسّك فيه الناسكون (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) ومن هنا بدأت الحركة الظاهرية نحو هذا البيت العتيق الذي اعتقه الله من الغرق بل هو اعتق واقدم بيت حيث قال تعالى:
(ِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ ) (آل عمران: 96 - 97). هكذا جعل الله تعالى بيته مجلى عظمته ومأوى ضيفه.. والتدبر في تلك الآيات يعطينا النتائج التالية:
1- إن البيت الكريم أول بيت وضع لعبادة الله وتقديسه.
2- وانه للعالمين لا يختص به أحد (سواء العاكف فيه والباد).
3- هو بيت الله فكل عبد لله تعالى له حق الوفادة إليه، وانه ملتقى الشعوب ولا يحق لأحدٍ أن يمنع وافداً إليه.
4- انه مكان مبارك فكل وافد يحظى بمقدار من البركة وبنوع منها.
5- انه(هدى للعالمين) فهو مكان هداية بل منه تنطلق أنوار الهداية ومنه انطلق النور النبوي الشريف (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ونور هدايته باقٍ إلى يوم القيامة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
6- فيه آيات بينات فلا بد أن يلتفت إليها الوافد ويشعر بها ويستزيد من نورها ويستضيء بها.
7- أوجب الله تعالى على كل مستطيع الوفادة إليه (مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
8-جعل ترك ذلك مساوياً للكفر.
9- جعل الداخل إليه داخلاً في الأمان والأمن الإلهي فعلى الداخل أن يغتنم ذلك ولا يخرج منه.
10-خلّد ربنا أثر إبراهيم الخليل وجعل موضع قدمه ذكراً خالداً وعلامة لمقام المخلصين ومنه نعرف أنه ينبغي احترام آثار أولياء الله المقربين، وجعل الصلاة عنده منسكاً للناسكين.
فجدير بالمسافر إلى تلك الديار المقدسة أن يعرف انه سافر إلى مثل هذا المكان اللائق بالاحترام والتقديس والتزود من بركاته وبذلك يحظى بالشرف الأوفر والحظ الأكبر ويفتح له في الحساب الإلهي صكاً مفتوحاً وعطاءً جزيلاً فعليه أن يحافظ عليه بتوثيق الصلة بالله والعمل الجاد والإخلاص المستمر وهذا هو الحج الواقعي فلقد ورد عن أبي جعفر (ع) حيث سئل لماذا سمي الحج حجاً؟ فقال: حجّ فلان أي أفلح (البحار: ج96 ص2 ح1). فيكون الحج هو الفلاح عند الله تعالى.
اجتماع بلا هدف!!
يشكل الحج أكبر تجمع إنساني عالمي يضم مختلف الجنسيات بمختلف المظاهر والألوان يدينون لصاحب البيت بالخضوع والخشوع والولاء وهو اعظم العبادات بأداء الشعائر الإلهية. إن هذا الوفد العظيم من مختلف البلاد المترامية من كل صوب وحدب وفد إلى بيت الله ليس لأجل الشعائر الظاهرية فقط بل وراء ذلك شعار أعظم؟! فقد قال ربنا : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) فقبول ذلك الولاء وتلك الشعائر مرهون بصدق المحبة واتباع المحبوب فيما يريد.
إن هذه الجموع الغفيرة من مئات الأقطار المتنوعة التي وفدت إلى بيت الله بلغاتهم المختلفة المتفاوتة وثقافاتها المتنوعة لم تأت لكي تجتمع ثم تفترق دون جدوى، بل قد ندبهم ربهم لإقامة شعائره ومن أهم الشعائر احترام الناس وإعطاؤهم قيمتهم الحقيقية وأن ينظروا إلى الشعوب بعين التقدير والمحبة، نعم لا بد أن يتعارفوا ويتناقشوا في أمورهم ويتشاوروا ويستفيد كل من كل؛ أي بمعنى أن يأخذ كل من إيجابيات الآخرين ويدع سلبياتهم وبذلك يجتمع الكم الهائل من الفكر الإيجابي لتطوير حياة الأمة وتعديل مسيرهم حتى تتقارب حضاراتهم وتقاليدهم وتصب في واد إسلامي موحد فلم يدع ربنا الناس لبيته حتى يستفيد منهم في شيء بل قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، وأهم المنافع تبادل الثقافات وإزالة السلبيات وطرحها ولا يتم ذلك ألا بعقد مؤتمرات يومية في فضل الحج وتسجيلها وبثها عبر أجهزة الإعلام العالمية وإظهار اتحادهم حتى يرهبوا عدو الله ولا يطمع فيهم طامع ولعله لأجل التجمع وحصول النتائج جعل الله تبارك وتعالى الحج في اشهر بعينها كما قال تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) حتى يتمكن أهل الأقطار أن يجتمعوا ويتكلموا في أمورهم وهم بمتسع من الوقت وهذا من أهم أهداف ذلك التجمع العظيم، ومنه نعرف قول الرسول الكريم: (من أراد دنياه وآخرته فليؤم هذا البيت)، وهو توجيه عام شامل لجميع الناس ليستفيدوا لدنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) فقصدهم إلى البيت الحرام هو لأداء الواجبات مع الالتفات إلى أهمية عقد المؤتمرات بشكل عام وموسع لكل الطبقات فالتجار يلتقون بالتجار والحكام بالحكام وعلماء الدين بالناس فيما يحتاجونه من لقاءات أعم من كونها دينية ذات طابع خاص بل هي ذات فائدة عامة للجميع فذوو الاختصاص يكون لهم فسحة هناك لتحقيق أمانيهم ولكن الأمر الأهم أن لا ينسوا شعوبهم وإخوانهم ولا يقتصر نظر الشخص إلى انتمائه العرقي أو الوطني بل يمتد إلى انتمائه الإسلامي بل والبشري بصورة عامة وبذلك يتم نقل أخبار البلاد الإسلامية وخصوصياتها وتحصل معرفة بثغورها ونقاط القوة لتحفظ ونقاط الضعف فيها لتعالج وهذه من مسؤوليات المتصدين هناك، حيث أشارت الآية الكريمة (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). إن وظيفة القائمين بخدمة البيت هي توفير الخدمات لمختلف الوافدين ومن أهم الخدمات تهيئة أمكنة كبيرة معدة صالحة لمثل تلك اللقاءات بل يجب عليهم أن يفسحوا المجال للآخرين لتنظيم شؤون الحجيج ومساعدتهم، وتنظيم لقاء الوفود المختلفة والإعلان عن برامج منظمة في ذلك.
ولعل من أهم الشعائر الإسلامية المحققة لنجاح المسلمين هي الدراسة الواقعية والموضوعية لأمور المسلمين وإعلان شعائرهم بشكل يوحي بالتوحيد لله تعالى والخضوع له والدفاع عن دين الله وعباد الله الموحدين فكيف يتلائم التوحيد مع عدم رعاية أمور المسلمين وقد قال النبي الأكرم(ص): (من سمع منادياً ينادي يا للمسلمين فلم يجب فليس بمسلم)، فكم من شعب ينادي ويستغيث ولا من مجيب.
فبلاد المسلمين واحدة والمسلمون أمة واحدة لا فرق بين عربيهم وأعجميهم هذا ما عرفناه من نبي الإسلام (ص) فلا بد أن تتحد بلاد المسلمين وتكون بلاداً واحدة تحت رعاية الكتاب والسنة المطهرة كما كان في عهد النبي (ص) ويكون غرضهم الأسمى هو رفع المستوى الثقافي وجمع الكلمة تحت شعار(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) وبذلك تتجمع ثروات البلاد الإسلامية وتصرف على إصلاح كل البلاد. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فلا بد أن ينطلق الاهتمام من بيت الله بخلق الله وشؤونهم وإصلاح أمورهم وليكن بيت الله هو منطلق الجميع نحو الوحدة التي تعطي الجميع حقوقهم بمختلف مذاهبهم وتترك لهم حرية اختيار المذاهب الإسلامية دون محاربة وتكفير.
لقد أشار الإمام الصادق (ع) إلى موضوع الاهتمام بالناس وقضاء حوائجهم في ضمن بيانه ثواب الحج حيث خاطب صاحبه قائلاً: من أين بك يا مشمعل؟ فقلت: جعلت فداك كنت حاجاً، فقال: أوتدري ما للحاج من الثواب؟ فقلت: ما أدري حتى تعلمني فقال:
إن العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً وصلى ركعتيه وسعى بين الصفا والمروة كتب الله له ستة آلاف حسنة وحط عنه ستة آلاف سيئة ورفع له ستة آلاف درجة وقضى له ستة آلاف حاجة .... فقلت جعلت فداك إن هذا لكثير فقال أفلا أخبرك بما هو اكثر من ذلك؟ قلت بلى فقال (ع) لقضاء حاجة إمرء مؤمن أفضل من حجة وحجة وحجة حتى عد عشر حجج (البحار: 96 ص3ح1).
نعم هكذا يشير مولانا الصادق (ع) إلى جوانب الحياة الاجتماعية فلا بد من الاستفادة من هذا الأمر العظيم وخصوصاً في ذلك الجمع الغفير للحصول على القسط الأكبر والأوفر فيما يتعلق بقضاء حوائج الناس والسعي في أمورهم في مختلف البلاد الإسلامية وبهذا تكون معنوية الحج أرفع وشأنه أعظم ونكون قد اقتربنا أكثر من الهدف الأسمى المطلوب لذلك التجمع العالمي الذي تعج فيه الأصوات بصنوف اللغات.
سفر الخلق إلى الحق وصحوة الباطن لمعرفة الحج
وهكذا فالحج أعمال وآثار وإشارات ورموز، ظاهر وباطن، ولعل كل عمل من أعمال الحج يشكل ظاهرة واقعية ذات آثار على باطن الإنسان فلابد من التوجه لها وان يعلن التطابق بين الظاهر والباطن فهناك تختلف الألوان وتتحد المظاهر. وهنالك أيضاً تبدأ الأعمال حيث أولها الإحرام وظاهره التجرد من كل لباس مخيط، فتلبس ثوبي الإحرام وحينئذ عليك الالتزام بتروك الإحرام وإليك الإشارة إليها مع التأمل في واقعها وشرح الإشارة والرمز فيها بنحو موجز فحسبك أن تتجرد من ثيابك الظاهرية التي هي مظهر جمال الدنيا؛ إذ قد نزعت وتركت الالتفات إلى الدنيا بنزع مظاهرها بل وحتى ما يستر ظهر القدم والساق، وتشير بذلك إلى إعلان التجرد عن الذات والأنانيات وتكون الملكية لله تعالى فلا تعلق لك بمظاهر الزينة حتى مثل الطيب والاكتحال والتزين ولو بخاتم أو ساعة يدوية أو نظارات للزينة لا تلتفت إلى نفسك بل لا تنظر إلى المرآة ولا تستظل إلا بظل الله تعالى ورحمته ولا تلبس إلا ثوب الطاعة.
فلا يقدم على الصيد ما دام محرماً بل لا يلتفت إلى ذلك ولو بالإشارة إليه ليدل صائداً غيره ويتجرد من نزعاته الشهوية كلها بما فيها مقاربة النساء والنظر بشهوة فمن يجرد نفسه لا يتعلق بذلك، ولا يعقد لنفسه ولا لغيره، لأنك خرجت لله ومن صار لله لا ينظر إلى مرادات نفسه فلا كذب ولا جدال ولا فسوق هناك فما دام قد أضحى فلا يغطي رأسه ولا يرمسه في الماء.. فهل يتكبر حال الإحرام ويتعالى على غيره أو يفخر أو يستهزء أو يحسد أو يعادي أحداً؟ كلا لأنه خرج عن لباسه الأخلاقي السيء فهو لا يملك من نفسه لنفسه حتى أن يزيل هوام الجسد عن جسده ولا يزيل الشعر ولا يخرج الدم بل حتى لا يقلم أظافره كل ذلك ما دام محرماً فإذا اسلم نفسه لله فلا يحمل السلاح ولا يشهره ولا يتظاهر بشهوة أو غضب بل هو راضٍ حتى لو عرضت له ريح نتنة فلا يمسك أنفه عن شمها؛ فلابد إذن أن يتحرر من ذلك كله ويخلص لله تعالى، كما إن أول درجات معرفة نفسه تظهر بالإحرام والالتزام بما أمر به ونهي عنه وإن كان ذلك مؤقتاً ولكن إن عرف من نفسه الإلتزام واستطاع أن يجرد نفسه من كل ما كان له وأمحض الرغبة لله تعالى فهنا يعرف أن ذلك ممكن له بل أكثر من ذلك هو ممكن له بعد ذلك، فالإحرام صار له مبدأ الالتزام والاستعداد إلى آخر عمره فإحرامه صار انطلاقا صادقاً كشف عن صدق نيته مع الله تعالى ومهد له الطريق لئلا يرى نفسه فقط بل لا بد أن يرى ربه.
ومن هنا يلتفت إلى الالتزام بحقوق خلق الله تعالى كما يلتفت إلى حق الله ويعلم أن الإعراض عن الحج الذي هو من حقوق الله جل وعلا يسبب العمى في الآخرة إذ قد ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع) حينما سئل عن قول الله تبارك وتعالى: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) قال سبحان الله أعمى؟! قال: أعماه الله عن طريق الجنة (البحار: ج96 ص6 ح6).
فيا ترى أين يذهب إذا عمي عن طريق الجنة وماذا يكون مصيره؟ ومثل ما تكون حقوق الله محبوبة لله فكذلك حقوق عباده، فقد تكون حقوق الخلق أحب إليه من حقوقه حيث إن حكمها أشد في بعض الموارد.
وتتجلى عظمة ثواب الحج في حديث أبي عبد الله الصادق (ع) بقوله:(لو كان لأحدكم مثل أبي قبيس ذهباً ينفقه في سبيل الله ما عدل الحج، ولدرهم ينفقه الحاج يعدل ألفي ألف درهم في سبيل الله) (البحار: ج96 ص8 ح20).
وعلى هذا فقس ثواب قضاء حوائج الناس واغتنم ذلك فاللباس الذي نزعته عن نفسك هو نفسك فلا تنظر إليها فقط، بل انظر لجميع المؤمنين واغتنم ذلك واجمع بين حجك وتجردك وقضاء حوائج إخوانك فانه قد ورد عن النبي الأكرم (ص): (سافروا تصحوا وجاهدوا تغنموا وحجوا تستغنوا) (البحار: ج96 ص10 ح30).
وبالإحرام يحصل مبدأ السفر من الخلق إلى الحق ومنه إلى خلقه واللقاء بهم والتعرف عليهم بل بالإحرام يعرف مدى قدرته على ضبط نفسه في لسانه وفكره وشهواته بشتى أنواعها وهناك يتضرع عند باب المولى ليزداد قوة ويستمر في الطريق حتى لقاء الله تعالى.
المحور والمتحرك
ليس الغرض هنا بيان أعمال الحج فهو موجود في كتب المناسك بل أردنا الإشارة إلى وجود المحور في أعمال الحج ألا وهو الطواف فبعد الإحرام يتوجه الناسك إلى المحور في بيت الله الحرام ليطوف حوله فهو القطب الذي يُدار حوله وهو الوسط الذي يرجع إليه وهل يكون القطب إلا في الوسط واليه أشار الحديث النبوي الشريف حينما(ص) سُئل: لأي سميت الكعبة؟ فقال (ص):(لأنها وسط الدنيا)(البحار: ج96 ص57 ح8)، وحقاً أنها محورٌ للعالمين ويمثل الطواف حولها مظهراً للالتجاء إلى المحور وتعبيراً عن الشعور المفعم بمحبة صاحب البيت فمن أنعم عليه مولاه وأغدق بنعم ظاهرة وباطنة وأراد أن يخدمه يدور حوله ويكون رهن إشارته فالمحرم يمثل هذا الشعور ويلتجئ إلى فناء المسجد مظهراً محبته وإخلاصه ومعلناً ارتباطه بالمكان الذي جعل رمزاً لصاحب البيت الذي اختاره لعباده فهم يطوفون مظهرين بذلك استعدادهم لخدمة المولى شاكرين النعمة.
ومن جهة أخرى لابدّ للحاج أن يعي أن الدين لابد أن يكون له مركز ثابت يرجع إليه ويدار حوله وذلك المركز هو الإمام المعين من قبل النبي (ص) وإلى ذلك أشار النبي (ص) بقوله: (علي كالكعبة والكعبة تؤتى)، ووضح ذلك الإمام محمد بن علي الباقر(ع): (إنما أمر الناس بأن يأتوا هذه الأحجار فيطفوا بها يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم).
إذن على الحاج أن يلتفت إلى وجود المحور الذي ينبغي أن يطوف حوله فلابد أن يرى المحور المبيّن لدين الله وأحكامه وشرائعه والخليفة المنصوب من قبل الله تعالى الذي هو بمنزلة الكعبة في الباطن ألا وهو ولي الله الأعظم فيعرض عليه نفسه ودينه وولائه ونصره.
فكما أن الطواف يرمز إلى محبة صاحب البيت فهو يراد منه اللقاء بالقائد الروحي الذي لو ألقيت إليه زمام الأمور الظاهرية لأخذ بأيديهم إلى المحجة البيضاء ولعرفوا صلاح دينهم ودنياهم فالحج يمثل البيعة الكبرى لإمام المسلمين من كل أقطار الأرض وعنده تكون المشورة ولأجل فهم رأيه تعقد المؤتمرات حتى ينهلوا من توجيهاته نحو حياة احسن وأطيب؛ فحركة العالم لابد أن تكون حول محوره وتدور بتوجيهاته فمن ذلك المركز الإلهي تنطلق الحركة واليه تعود كما في الطواف حيث تبدأ من عند الحجر الأسود واليه تعود حتى تكرر ذلك سبعاً كي يترسخ في نفسك وجود المحور والمركز حتى لا يخرج الجميع عن محورهم وبذلك يحصل توحيد المحور في محور التوحيد وقد دعانا القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) ولا يحصل التفرق إلا بالابتعاد عن المحور المعين وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) وبالقيادة العليا ووحدتها تتحد الكلمة ويحصل الاعتصام بحبل الله فالحج مناسك ومعارف إلهية لتعليم الناس التوجه نحو ما يريده الله تعالى لصلاح البشر أنفسهم حتى ينعموا بنعيم الدنيا قبل الآخرة(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ).
السعي نحو الكمال
ومن مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة وقد قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ). فالحركة تبدأ من الصفا إلى المروة وهي شعائر في أماكن مقدسة كما هي حركة من نزع الذات إلى بارئها فيخرج من نفسه ويصفو إلى الله تبارك وتعالى فلذا ورد عن أبي عبد الله الصادق (ع): (ما من بقعة أحب إلى الله عز وجل من المسعى لأنه يذل فيها كل جبار عنيد) (البحار: ج96 ص45 ح34)، فحينما يصل إلى محل الهرولة في المسعى تتجلى له العظمة والعزة الإلهية وتظهر ذلّة الإنسان المتكبر، وكأن الهرولة هي لغربلة النفس من الزوائد وتجريدها من التكبر والفخر ومن رذائل الأخلاق.
وقد اختار الله تبارك وتعالى أسماء لهذه الأماكن تدل على معاني سامية وتلقن الناسك بنحو صفاء النفس فهو يتحرك من الصفا لتصفوا نفسه حتى يصل إلى المروة التي تشير إلى مروة النفس، فكما تصفو نفسك أمام الله تعالى فكذلك لا بد أن تصفو أمام المخلوقين حتى تعامل معهم بالمروة وهي رعاية الضوابط الأخلاقية والعرفية مضافاً إلى تهذيب النفس ولعل في هذا السعي إشارة إلى حث الخطى نحو الكمال فهو يتردد من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا فالتردد بينهما تردد في الكمال بسعي مستمر وأن طريق الكمال غير موصد بل مفتوح على الدوام، فإذا كان السعي بين الجبلين من شعائر الله فالسعي نحو الكمال وغربلة النفس وتجريدها اكثر شعيرة وأهم طلباً.
ومن هذا السعي يتهيأ المرء للقاء الله تعالى بتطهير النفس وتزكيتها، ثم بعد ذلك تقف على المروة وتقصر من شعرك وظفرك لتشعر نفسك بقطع الزوائد والتعلقات وإزالة الأدران وهذا ما يحتاجه المرء دائماً فكما التقصير الظاهري يحتاج إلى حديد ومقص فكذلك الباطن يحتاج إلى دقة وحدة نظر لأنه قد تخفى على المرء خفايا النفس فعليه أن يتعامل معها بجد ولا يتساهل في أمرها وفي نفس الوقت يشعر نفسه بالتقصير أمام خالقه، واغتنم الفرصة ما دمت في بيت الله الحرام بالتسبيح والتهليل وقراءة القرآن فقد ورد عن أبي جعفر الباقر (ع): ( من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله (ص) ويرى منزله في الجنة).
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): (تسبيح بمكة يعدل خراج العراقين ينفق في سبيل الله) (البحار: ج96 ص82 ح33 وح46).
معرفة واعترافات
تقف بين الجبال في ذلك الوادي العظيم حيث هناك جبل الرحمة تشعر بأنك صغير أمام عظمة الله تعالى وترى نفسك أنك (لَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) فما حجمك أمام تلك الجبال والتلال إن أنت إلا كتلة لحم وعظم وفيك الطراوة واللين فلا يمكنك تحدي تلك الصخور الصماء وما هي إلا مخلوقات حقيرة أمام عظمة الله خالقها فكيف بك إذا رأيت نفسك أمام الخالق جل وعلا فهناك عرفات فلابد أن تعرف نفسك فيها وتعترف بضعفك أمام الله تعالى حتى تصبح عبداً خاضعاً طائعاً له سبحانه عز وجل وتكون عزيزاً قوياً بالله تعالى فعرفات تعرفك نفسك وتحفزك للإعتراف حيث هناك الخلائق على شكل موحد مرتدين تلك الثياب البيضاء ويمثلون بموقفهم هذا موقفاً من عرصات القيامة حيث لا يعرف الغني من الفقير والملك من الرعية بل الكل سواسية هناك والكل يضجون إلى الله تعالى فإليه تعج الأصوات بصنوف اللغات فيتذكر العبد بذلك الموقف موقف القيامة ويشتد بهم التذكر حينما يجري السيل البشري عند الغروب منها إلى المشعر الحرام وتفيض تلك المواكب وحقاً انه فيضان من تلك الأرض الطاهرة حيث قد أمطرت عليهم الرحمة الإلهية وغسلتهم فيصيرون إلى المشعر الحرام وهي أرض يجتمع فيها الخلائق في تلك الليلة فمن غفل عن عرفات وسها قلبه في وضح ضوء النهار فيمكنه إدراك تلك العظمة في الليل البهيم حيث أرسل ظلامه وعندها يشعر الإنسان بالتعب من ذلك النهار من حر ولهيب الشمس فيتوجه إلى الغني المطلق ويشكو فقره واحتياجه هناك إلى الماء والأكل وإلى مكان يخلو فيه لرفع أضرار البدن فيفزغ في ذلك الظلام وفي اضطراب الناس إلى الغني العزيز لعله يخلو ولو للحظات بربه ويحظى منه بأوفر النعم؛ إذ إن عرفات هي محل الغفران والرضوان ومن تصور عدم شمول الرحمة له فقد أساء الظن بالله تعالى كما ورد عن الباقر(ع): (إن من أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفات ثم ظن أن الله لم يغفر له) (البحار: ج13 ص547 ح2).
وخلاصة القول فإن عرفات معرفة واعتراف وتعرف على وضع القيامة واعتبار بالنسبة للناسك.
الرمي والهدف
إذا أشرقت الشمس صباح يوم العيد الموافق للعاشر من ذي الحجة الحرام وتحرك الناس من المشعر الحرام نحو منى إذ الناس يفيضون إليها كالسيل إلى حيث وادي منى في آخره وهناك الزحمة العظمى على إسطوانة ترمى من كل جانب بالأحجار الصغار من قبل ملايين الحجاج يرمونها في ذلك الصباح مفتتحين يومهم بالرمي سبع حصيات فعندها يتساءل الناس ما الهدف من ذلك؟ قالوا إن تلك الاسطوانة والعمود يمثلان موقف الشيطان من أبينا آدم وكذا كان له موقف من خليل الرحمن إبراهيم(ع) فهنالك رجموا الشيطان لئلا يتدخل في ما أمرهم الله به ويفسد عليهم طريق الحق، فأنت أيها الناسك من ترمي؟ وما يعني رميك؟ أولاً انه نسك وثانياً لابد أن يدعوك النسك إلى التنفر من الشيطان كما أظهرت الحب للرحمن بطوافك وهنا يظهر موقفك من عدو الله الذي تمثل في هذه البقعة الشريفة فرميك يمثل البراءة منه فلذا تدعو هناك عند الرمي وتقول اللهم سدد رميتي حتى تصيب الهدف الظاهري بظاهر الرمي والهدف الواقعي بنيتك. ومن حكمة الله أن اسم الموضع منى وكأنها إشارة إلى أن هنا تعطى المنى ومكان تمني قضاء الحوائج فلعل هنا عندما تريد قضاء النسك يتدخل الشيطان في مُناك فازجره عن ذاتك وأعلن البراءة برمي الموضع ثلاثة أيام فإذا طردت من داخلك صفات إبليس فادعوا الله تعالى بقلب طيب ونية صادقة وتوجه إلى أول نقطة من منى حيث المذبح والمنحر واختر من الأنعام ما تتقرب بذبحه إلى الله تعالى، إذ(لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ونيل التقوى يكون بطهارة القلب حيث ورد (القلب حرم الله فلا يدخل حرم الله غير الله) ولعل في الذبح إشارة إلى ذبح البهيمة من شهواتك وتسليط قوى العقل عليها دون العكس ولعل هذه الأعمال لها ظاهر تكويني ولها باطن يؤثر على باطنك كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات الشريفة فكانت هذه الأعمال مقدسة لتطهير الجوارح والجوانح فلذا ورد في الروايات أن الحاج يرجع كما ولدته أمه فعلى الناسك الالتفات إلى فلسفة أعمال الحج لكي يحصل الدافع الأقوى في ذلك ويلتذ بإتيان العمل ويتوجه إلى باطنه فيطهره فعليه أن يستأنف العمل ويتذكر أنبياء الله وسيرهم في هذه الأرض ويستمد من أنفاسهم حيث أعلنوا براءتهم برجم موضع الشيطان وبعد أداء الرمي والذبح حينذاك يحلق أو يقصر إعلاناً لطاعة المولى ومعلماً نفسه بعلامة الحج، والطاعة والحلق آكد علامة فإنها تذكره أكثر كما تذكر غيره بأنه جديد العهد ببيت ربه وقريب من رحمة الله وغفرانه، فما أحلى المناسك وأداءها إذا صحبتها معرفة وإخلاص ومن هناك إلى بيت الله لتكرار الطواف.
ثم أخيراً وداعه ليعود الحاج إلى دياره كي يستمر في حياته الاعتيادية مغموراً بالنور الرباني فقد وردت الروايات بأن أثر الحج ونوره يبقى إلى أربعة اشهر ما لم يعص الله عز وجل، فليحافظ على النور ويراقب نفسه ويشكر ربه.
إذن لا تعني عودتك من الحج عودتك من الله تعالى بل قد أسست الروابط الوثيقة به بأعمالك وإخلاصك فلا تقطع الصلة بينك وبين ربك إذ قد حصلت على معنويات وأنوار في حب الله تعالى وأظهرت ذلك بجوارحك وصبغت نفسك بصبغة ربك ومن هنا لا بد أن يظهر الأثر بعد الرجوع الظاهري من الحج حيث هنا تختلف شخصيتك عما هي قبل الذهاب فإذا رجعت فليعرف الأثر أهلك وذووك وأقرباؤك انك تأثرت إيجابياً بذهابك وتركت سلبياتك السابقة حتى ظهر ذلك في أخلاقك وسلوكك فتبقى على قربك من الله تعالى وهذا ما يكون داعياً للآخرين للتخلق بأخلاق الله وتبعث فيهم الشوق والأمل لزيارة بيت ربهم وبهذا يكون الحاج قد رجع بشيء جديد مجسداً قوله تعالى: ( إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الصافات: 99).
اضف تعليق