الوجود الذكي والفاعل لجاليات بعض الأمم والشعوب في البلاد المتقدمة، مكنها من القفز بعيداً عن طوق "العالم الثالث" لتحقق وجوداً متميزاً في الاقتصاد العالمي، ثم لتترك بصماتها على ثقافات الشعوب وتصدر لها أنماط للعيش بشكل مذهل، فهذا الشعب الصيني ثم الشعب الهندي ومن بعدهما الشعب الكوري الجنوبي، وحتى البرازيل! التي نسمع عن وجود سلع وظواهر تحت اسم "برازيلي"، وهكذا؛ الامثال عديدة في مجتمعاتنا الاسلامية! فالصين؛ مثلاً، لم تتطور وتتوغل اقتصادياً في العالم، وإنما فرضت نفسهاً ثقافياً بتمارين "يوغا" و"تاي تشين"، على العالم بأسره، ربما بشكل أكثر ذهولاً من انتشار السلع الاستهلاكية.
والعراق، لم يكن يوماً بأقل من غيره ثقافياً وحضارياً، بما لديها من عقول وثروات وتاريخ وعقيدة بما يجعل ابنائه اكثر تميّزاً بين ابناء سائر الجاليات في العالم، و رغم سحب السياسة الداكنة المخيمة على المشهد العراقي، فان الاوساط الاقتصادية والعلمية والثقافية في العالم المتحضر تتطلع في آفاق مستقبل هذا البلد وفرص نموه وتقدمه، اكثر مما تتابع احداثه الامنية اليومية التي تعرف انها من صنع الساسة وتخضع لحسابات خاصة، تنتهي حالما يستنفذون اغراضهم منها.
يد في الماء ويد في النار!، ربما يقول البعض: ان الجالية العراقية المتواجدة اليوم، وبشكل محدد؛ في اوربا والولايات المتحدة، إنما يرمون الى تحقيق العيش الكريم بعيداً عن المنغّصات والازمات، سواءً من استوطن تلك البلاد قبل أو بعد سقوط صدام، وربما يكون هذا؛ القاسم المشترك الذي يجمع العراقيين هناك، بيد أن ثمة شريحة لا بأس بها من المثقفين و الاكاديميين، من كتاب وأدباء وباحثين وعلماء في الطب والهندسة والاقتصاد والتخطيط وغيرها، يحملون درجة عالية من الوعي تدفعهم دائماً لأن يدلوا بدلوهم فيما يجري في الوطن، من خلال متابعاتهم اليومية عبر وسائل الاعلام والتواصل، او من خلال زيارات عمل او تفقّد وغير ذلك.
هؤلاء الأحبة الأفاضل تقع عليهم مسؤولية أخلاقية وحضارية كبيرة، لا تخفى عليهم، لسبب بسيط، أنهم من ابناء الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ممن خبروا التجارب السياسية المرّة، وخاضوا معترك الثقافة والفكر في العراق، وفي المهجر حملوا هموم الوطن والشعب وما لم يتحقق من اهداف، فتبلورت لديهم رؤى وافكار قيّمة تفيد لصنع الواقع الأحسن للعراق والعراقيين، وهذا ما نلمسه من كتابات واحاديث العديد من الاسماء البارزة في الساحة، فاذا كان المطلوب ايجاد مصاديق عملية على الارض الواقع لتلكم الرؤى والافكار، ما عليهم إلا إبعاد جميع المؤثرات السياسية والاجواء السلبية الحاكمة، والدخول فيما دخل فيه العراقيون من تجربة لم يعهدوها من قبل، فيما قرأ عنها هؤلاء وكتبوا ونظروا، بل وناضلوا ردحاً من الزمن لتحقيقها، وهي اليوم ليست فقط تجربة ديمقرطية وحسب، وإنما محاولة جادّة لصياغة حياة جديدة غير الذي تشكّل خلال السنوات الماضية بسبب سوء فهم وتطبيق هذه التجربة، مما أوقع العراقيين في ورطة تاريخية رهيبة لابد من مد يد العون لانقاذهم، وهذا ما يدفعني للقول: بأن من الجدير على ابناء العراق في الخارج ، بأن "يضعوا يداً في النار، كما توجد اليد الاخرى في الماء"، كما هو المثل العراقي، والامثال تُضرب ولا تقاس.
ومن أجل ذلك؛ اعتقد أن الزيارات السريعة لن تقدم تلك النتيجة المرجوة، بخلاف الزيارات الطويلة التي تشبه الى حدٍ بعيد؛ العودة الى أحضان الوطن والشعب، والواضح جداً؛ الفارق بين من يتحدث عن تغيير او تطوير، وهو جالس في شقته في الغرب التي لا تشبه كثيراً المساكن عندنا في العراق، او من يقوم بزيارة تفقدية لبضعة أيام ثم يعود، فالناس ينظرون دائماً الى من يعيش واقعهم ويتذوق مما يتذوقونه من معاناة ثم ينظروا انه يضع يداً مع ايديهم لإزالة ركام الفساد والانحراف عن واقعهم.
وفيما أنا اكتب هذه السطور، أتخيل لو كان أحداً آخر غيري من أهالي احدى المدن التي تحدث عنها صديق قديم، على درجة من الوعي والثقافة يقيم في الخارج، وهو يتحدث خلال تجوالنا في السيارة واصفاً تلك المدينة بأنها عبارة عن "مكب نفايات"! ماذا كان رد الفعل؟
بالنسبة لي؛ اعرف مقاصد هذا الكلام من الصديق، وهو اكبر منّي سنّاً وعاش ردحاً طويلاً من الزمن في عراق الديكتاتورية، بيد أن حسن النية هذه، او الحرص على تكون المدينة.... أنظف وأحسن حالاً، لن تقنع أي انسان من سكان تلك المدينة بل وأي عراقي آخر ببراءة هذا الكلام.
هذا الانفعال او التبرّم او أي نوع آخر من المشاعر المبررة لأصحابها، لن تفيد الانسان العراقي الذي بات اليوم في دوامة البحث عن حلول لازماته المعقدة، فما يغير هذا الكلام، ولا حتى التنظير في الندوات والمؤتمرات، مع فائق تقديرنا للجهود الثقافية والفكرية والبحثية المبذولة لصياغة رؤى وافكار يراد منها إفادة حاضر ومستقبل العراق، بيد أن تشابك الازمات في العراق بحاجة الى ملامسة واقعية، لاسيما اذا عرفنا أن معظم مشاكل العراق، لاسيما السياسية والاقتصادية منها، ليست حقيقية، إنما هي مشاكل كاذبة ومفتعلة.
إن خطاب "تحصيل الحاصل" لن يجدي نفعاً، إنما يحتاج الامر الى مشاركة فاعلة من داخل الوسط العراقي للمساعدة على تغيير مجمل الاوضاع الراهنة، فربما كان هنالك حاجة للتنمية والتطوير مثل التعليم والصحة، أو إعادة التأهيل مثل الزراعة والصناعة وغير ذلك.
وأخيراً؛ فان ابواب العراق أوسع بكثير من نافذة "الفيس" او مواقع التواصل التي نلاحظ تواجد الكثير من الاصدقاء والاحبة ، ومعظمهم من الكفاءات وأهل العلم والمعرفة والثقافة، وهم يتابعون وينشرون ويعلقون على مجريات الحياة في العراق، ورسالتهم في خطها العريض؛ أن يكون العراق بخير بعيداً عن الفتن الطائفية والازمات السياسية والاقتصادية وكل منغّصات العيش.
اضف تعليق