اقترن اسم المرجع الراحل وزعيم الحوزة العلمية الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي – طاب ثراه- باستقلال العراق وكرامة شعبه بقيادته "ثورة العشرين" والانتفاضة المسلحة عام 1920ضد الاحتلال البريطاني. هذه الحقيقة التاريخية يؤكدها الباحثون والمؤرخون، بيد أن ثمة حقيقة أخرى كانت ملازمة لأحداث الانتفاضة الجماهيرية آنذاك، خلقها الميرزا الشيرازي، ولعل وجودها كان بمنزلة العامل الأساس في نجاح هذه الانتفاضة بتحقيق احد اهدافها في تشكيل نظام حكم بزعامة شخصية عربية مسلمة، وليس الضباط البريطانيين، كما كان المخطط في لندن.
وحدة الصف والتلاحم الاجتماعي
من اهم عوامل النجاح في الثورات والانتفاضات، وجود قيادة حكيمة تعبر عن هموم مشتركة وطموحات متقاربة لعديد شرائح المجتمع، لذا نجد أن الانتفاضات التي تندلع في هذا البلد وذاك، بدوافع خاصة ومحدودة، تكون محكومة بالفشل او النهاية بالاحتواء والالتفاف عليها، مثال ذلك "ثورات الخبز" او بعض الثورات المطلبية الهادفة الى إسقاط الوجوه الديكتاتورية عن كرسي الحكم. بينما الامر اختلف تماماً مع الثورة والانتفاضة المسلحة التي قادها الميرزا الشيرازي، فقد جمع أطراف المجتمع العراقي آنذاك ووجهه نحو هدف واحد وكبير وهو "الاستقلال" وإخراج المحتل البريطاني ثم تشكيل نظام سياسي وحكومة منبثقة من الشعب العراقي نفسه.
وهذا ما يؤكده الدكتور علي الوردي في موسوعته التاريخية "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" في الجزء الخاص بثورة العشرين، حيث يشير الى "عوامل كان لها أثرها الفعال في الثورة..."، يذكر منها؛ التلاحم الحاصل بين اهل المدن والعشائر في هذه الانتفاضة، "فقد كان هناك نوع من النفور او الاحتقار المتبادل بين العشائر وبين أهل المدن، لكن هذا النفور اختفى أثناء ثورة العشرين، لاسيما في الفرات الاوسط...".
اختفاء هذا النفور او التباعد الطبقي والاجتماعي المعروف، ليس في العراق، إنما في معظم البلاد الاخرى، لا يكون صدفة، بقدر ما يدل على حنكة ودراية من القائد الشيرازي الذي جعل مواجهة الاحتلال البريطاني بأي صورة من الصور، يمثل مطلباً جماهيرياً عاماً، وليس خاصاً بفئة معينة متضررة كالفقراء- مثلاً- او النخبة المثقفة او غير ذلك.
ثم يتحدث الوردي عن العامل الآخر وهو الشمولية والامتداد الواسع للثورة في انحاء العراق، مستنداً هذه المرة الى رأي أحد ابرز المؤرخين والباحثين وهو أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب"، بأن "لم يحدث لأية معركة في العراق أن امتدت في انحاء العراق بمثل ذلك النطاق الواسع الذي امتدت به ثورة العشرين" وينقل عن الريحاني ما نصّه: "اني لأعجب ما حدث في العراق بعد الاحتلال الانجليزي.. هو ذا بلد لا صحافة فيه تذكر ولا طرق ولا مواصلات حديثة صالحة، ولا قيادة، تعمه الثورة فتربط اطرافه بعضها ببعض في اقل من شهر، ثم تستمر أشهر وهي تزداد قوة وهولاً...". طبعاً؛ يبدو أن الريحاني، الذي يستند عليه الدكتور الوردي، ابتعد قليلاً عن الموضوعية عندما يؤكد وجود ثورة تربط اطراف الشعب ببعض مع عدم جود قيادة....!
إحباط الفتنة الطائفية
تؤكد المصادر التاريخية على أن الحوزة العلمية وعلماء الدين الشيعة، شكلوا الصدمة الكبرى للاستعمار البريطاني عندما انفردوا عن غيرهم في البلاد الاسلامية، بعدم تقبلهم أي نوع من الإغراء بالمال والامتيازات السياسية، ولم يتمكن رموز هذا الاستعمار من ضباط كبار وساسة معروفين، من استمالة علماء الدين او حتى تحييدهم، وهذا ما دفعهم بقوة لأن يتوسلوا بالطائفية المقيتة كآخر سلاح يواجهون به هذا الخطر الداهم على مصالحهم منذ ذلك الوقت وحتى اليوم والى أمد غير معلوم.
والظاهر من الأمر، ان البريطانيين حاولوا إثارة آلام ومعاناة الشيعة في العراق من السياسات التعسفية والظالمة للدولة العثمانية، بيد أن حنكة وذكاء الامام الميرزا الشيرازي، كانت أعمق من هذا التسطيح في الخطاب الجماهيري، فهو عندما لا ينكر المظالم والفجائع التي ارتكبها العثمانيون ضد النساء والاطفال والمقدسات في العراق، فانه في الوقت نفسه يتطلع الى آفاق المستقبل في ظل احتلال جديد. وهذا ما جعله يقف بقوة بوجه محاولات قام بها القائد العسكري البريطاني في العراق "ارنولد ويلسن"، ولعدة مرات لإيجاد خرق في جدار الوحدة التي حرص الامام الشيرازي على تقويتها وتكريسها كثقافة وسلاح للانتصار؛ كانت الاولى عام 1919 عندما زاره للمرة الاولى في مدينة كربلاء المقدسة، حيث يقيم وعرض عليه – إن أراد- تعيين "كليدار" شيعي للروضة العسكرية آنذاك، فجاء الجواب صاعقاً، أن "لا فرق لدينا بين أن يكون "الكليدار" سنياً او شيعياً، ولا مشكلة عندنا في هذا الجانب".
وفي كتابه "لكيلا تتنازعوا" يذكر سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- أن هذا القائد البريطاني وفي بدايات اندلاع الثورة حاول مرة اخرى استمالة قائد الثورة بإثارة الحالة الطائفية، غافلاً عن أنها ممحية بالكامل من ذهنيته ولا وجود لها في قاموسه. فتحدث عن تحقيق مطالب الشيعة وأن بريطانيا "ترحب بمطالب الثوار وتريد إعطاء الشيعة حقوقهم المشروعة، وبما ان الثورة قامت على اكتافهم فانها تمنح الاستقلال لهم دون غيرهم...". فكان جواب الإمام الميرزا الشيرازي أن "العراق وحدة واحدة وان الاستقلال يجب ان يكون للجميع".
وبذلك، يؤكد سماحة الامام الشيرازي الراحل في كتابه أن فكرة تقسيم العراق على أساس طائفي كانت تدور في مخيلة البريطانيين منذ تلكم الايام، وهذا إن دلّ على شيء، إنما يدل على توقف البريطانيين تماماً عند الحائط الاخير مع الشيعة، وإدراكهم الكامل أن لا مجال للتفاوض والمساومة معهم، ولا مصالح تتحقق إلا باستخدام القوة والعنف وتمزيق البلد وعزل الشيعة في منطقة جغرافية محددة ليكون من السهل التعامل معهم ثم استنزاف قدراتهم وهزيمتهم.
وللحقيقة والتاريخ نقول: أن أهم موانع تحقيق ثورة العشرين لأهدافها بالكامل، هو تفتت عقد الوحدة بين قادتها ورموزها، وهو ما يشير اليه ايضاً سماحة الامام الشيرازي الراحل في الكتاب نفسه، عندما كادت الثورة أن تصل الى المرحلة الحساسة وهي انتخاب ممثل وزعيم للعراق بعد استسلام البريطانيين لصلابة وصمود الثوار، ففي الاجتماع الذي عقد في كربلاء المقدسة وبحضور قائد الثورة الميرزا الشيرازي، حصل ما لم يكن في الحسبان، حيث نشب الخلاف بين زعماء العشائر الثائرة على من يكون القائد، فتبين ان ثمة صعوبة بالغة من الناحية النفسية ان يكون أحدهم زعيماً دون الآخر، الامر الذي أثار انزعاج الميرزا الشيرازي بعد أن رفضوا حتى اقتراحه بتعيين شخص آخر من خارج دائرتهم ليكون الزعيم الجديد ويسد الطريق على التدخلات السياسية للبريطانيين، فكان ما كان؛ وقبل هؤلاء بأجمعهم ما اقترحه البريطانيون وهو تعيين شخصية عربية ومسلمة لكن غير عراقية، وهو فيصل ابن "الشريف حسين" ليس لمعرفتهم به وكفاءته، إنما لمعرفة البريطانيين به وباخلاصه، وإخلاص أسرته، لمصالحهم في العراق والمنطقة برمتها.
اضف تعليق