كل من يروم تغيير جانب من حياته الشخصية، او حياته الاجتماعية، او حتى ما يتعلق بالمجتمع الكبير (الأمة)، فان أول ما يصطدم في طريقه هذا، بجدار عالٍ وسميك من مشاعر الاعتداد بالنفس والحفاظ على قناعات وتبنيات في أعماق النفس. فهو ربما يدّعي التغيير او الإصلاح، ويسعى في هذا الاتجاه بأشكال وصور متعددة، بيد أن الحقيقة التي تبقى خافية، هي محاولاته الحثيثة – في الوقت نفسه- لتغييب التناقضات بين مكنونات نفسه، وما يريد تحقيقه في الواقع الخارجي، لذا نجده يتوقف عند هذا الجدار، ومعه ينمو ويتصاعد بأعماله، او ربما يلتف عليه برفق ويتجاهله، وهو بذلك يتجاهل حقيقة خطأ تلكم القناعات والتصورات، كما يتجاهل تجارب الآخرين التي تثبت هذا الخطأ.
في أدبياتنا؛ كمٌ هائل من التفسير والتوضيح لمفهوم "العِبرة" او "الإتعاظ" من الآخرين بما ينصرف على عموم جوانب الحياة، مما يجعل البعض ممن تكثر لديه الاخطاء والهفوات، في حياته الاجتماعية او الاقتصادية، او في تعامله مع الاصدقاء او الاعداء وغير ذلك، أمام استحقاق أكيد في ضرورة إعادة النظر بالحسابات والقناعات باستمرار، وهذا ما يكلف النفس الانسانية الكثير من التنازل عن الذات والاعتداد بالنفس، وذلك من أجل المضي في طريق التكامل الاخلاقي والايماني، وفي أقصى درجات الانضباط بعيداً عن مهاوي السقوط.
بيد أن البعض احياناً، يكون في طريق التكامل المادي، والبحث عن المكاسب والمصالح التي قد تكون في منصب في الدولة او في امتيازات سياسية او في مشروع تجاري وغير ذلك؛ فان القضية تختلف بعض الشيء، إذ هنا تتحرك الحاسة السادسة (العقل) لدى هذا البعض – وربما الكثير- ويكون البحث عن علائم تحذر من السقوط والفشل، وهذا ما يُسمى بـ "تجارب الآخرين"، حيث نرى الاهتمام البالغ بهذا الجانب، حيث تكتب البحوث والدراسات وتعقد الندوات والمؤتمرات لمناقشة تجربة فكرية لمنظر ما، او تجربة ثورية لشعب ما، او تجربة سياسية او اقتصادية وهكذا... كما نسمع بالحكمة القائلة بـ"الانطلاق من حيث انتهى الآخرون". والسبب في هذا الاهتمام، العائد المادي الملموس والمكسب الواضح للعيان الذي يجنيه الانسان، وعلمه اليقين بأن عدم أخذه تجارب الآخرين بـ "نظر الاعتبار" فان الفشل نصيبه.
طبعاً؛ هنالك مبررات ومسوغات أخرى لهذا التوجه تعطيه أهمية خاصة، فيكون استحقاقاً وليس مجرد اجتهاد او خيار قابل للرد، فهنالك مصالح شعب – مثلاً- في الجانب الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي، مما يتعين كسب التجارب، حتى وإن تعارضت بعض الشيء مع الأطر والثوابت الموجودة. لكن هذا السياسي الطامح او ذاك الاقتصادي المتنامي والمتعاظم، لا يجد في نفسه الحاجة او الضرورة لأن يستفيد من "عِبرة الطغيان" في السياسة والمال – مثلاً- فالبعض يقول: "لا حاجة لاستباق الامور والحكم عليها سلفاً...". فمن يقول: أن كل من تفرّد في الحكم سقط وانهار، فربما تكون هذه المرة ناجحة ضمن طريقة جديدة واسلوب عصري...! بل ربما يكون الامر ضرورة للمرحلة الراهنة!
وهذا تحديداً، يُعد من جملة اسباب الاسقاطات الرهيبة التي نعيشها في المجالات كافة. سواءً على الصعيد الفردي او الاجتماعي، وفي العلاقة بين المجتمع والدولة. مثال ذلك، استنساخ الديكتاتوريات بشكل سلس دون أي شعور بخطأ ما، علماً أن آثار الديكتاتورية السابقة، من مظاهر العنف والقسوة والتجاوز على حقوق الآخرين، ما تزال موجودة في حياة المجتمع. وهكذا، الامثلة كثيرة لا تُحصى، ومن هنا ايضاً هتف أمير المؤمنين، عليه السلام، قائلاً: "ما أكثر العِبر وأقلّ المعتبِر".
وحتى لا يزيد الفارق بين "تجارب الآخرين" و"الاعتبار من الآخرين"، ينبغي النظر بعين البصيرة الواحدة الى كل ما يحصل حولنا وعدّه درساً لنا، سواءً أ كان أمراً بسيطاً او كبيراً، وربما هذا البسيط، يتحول الى قضية كبرى عندما يلتقى بقضايا أخرى، مثل "الحرية" التي يعده الكثير مسألة طبيعية ملازمة للإنسان، لكن عندما تجتمع عندها مسائل اجتماعية وعقائدية وسياسية واقتصادية، يتضح مدى أهمية هذا المفهوم، ثم مدى اهمية "الاعتبار" من الشعوب التي جربت الحرية بشكل خاطئ فانزلقت في مهاوي الانحراف ثم الفشل في تحقيق طموحاتها وما كانت تصبو اليه.
من هنا يدعو سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "لكي لا تتنازعوا" عندما يشير الى أهمية الاعتبار في الحياة حتى يضمن الانسان عدم السقوط في المحذور، فالقضية لن تكون دائماً بحاجة الى بحوث ودراسات، إنما هي رؤية ثاقبة لأوضاع الساحة والتأمل في مجريات الامور، لاسيما في عصر "القرية الصغيرة"، عندئّذ ستظهر الكثير الكثير من العبر والدروس والتجارب.
وسماحته يورد في هذا الموضوع حكاية للعبرة من عهد "ابن طولون" الذي حكم مصر في القرن الثالث الهجري، حيث كان في رحلة صيد، وفي الطريق صادفه صياد فقير مع ابنه، وكان مظهره ينئ عن حاله وفاقته الشديدة، فأخرج هذا الملك ديناراً وأعطاه لهذا الصياد الذي كان مشدوهاً اليه، لكن بمجرد ان أخذ الصياد الدينار سقط على الارض ميتاً...! فأخذ العجب والاستغراب، ابن طولون وحاشيته، ولما سألوا عن تفسير هذه الحالة، قالوا: ان هذا الرجل لم ير شكل الدينار الذهب في حياته، فلما لمسه بيده، اجتاحه شعور عارم بالفرح لم يتمكن من السيطرة عليه فقتله. هنا أراد الملك أن يطيب خاطر الابن ويعطي الهدية اليه، فرفض. فسأله عن السبب، فقال: ان هذا الدينار هو الذي قتل أبي، وأنا أخشى منه على حياتي.
ان الكثير من الاشخاص، ربما تصادفهم هكذا حالات، فيعدونها فرص ذهبية للحصول على المال او المنصب او السيارة او العقار الفخم وغير ذلك، رغم معرفتهم بمآل من سبقهم وتناحر على هذه الامور، إلا ان الرغبة في المكسب المادي يجعلهم يخلقون الاعذار والمسوغات التي بعدهم عن العِبر والدروس الواضحة للعيان.
اضف تعليق