يبحث علماء النفس الايجابي وعلماء التنمية البشرية عامة، عن مصاديق عملية تجسد حالة الاقتدار لدى الانسان الفرد او المجتمع، كون هذه الحالة تمثل إحدى تجليات الوعي واليقظة والقابلية على النهوض بالواقع الفاسد بغية تغييره، ومن اجل يكتب العلماء في هذا المجال عن وجود القدرات الايجابية الكامنة لدى هذا الانسان، داعين الى إثارتها وتوجيهها نحو البناء والرقي قبل ان تقفز القدرات السلبية المدمرة الى الواجهة وتفعل ما لا يحمد عقباه ولا يمكن السيطرة عليه.
ولأن الاقتدار تعبير عن القدرة على تحقيق شيء وفعل ما يريده الانسان الفرد، فان البحث في هذا المجال ينصرف -غالباً- الى الاقتدار الذاتي الذي يبني في الانسان الفرد القوة على تقرير مصيره وصناعة الحدث والمشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بحاضره ومستقبله، في مقابل التحكّم بحالات الهشاشة والضعف التي تنتاب بعض النفوس ذات القابلية على الهزيمة النفسية.
وكلما طالعنا في هذا الميدان تراءى لنا المشاهد الحيّة والنابضة من سوح المعارك حيث يجسد أبطال الحشد الشعبي بشكل غاية في العفوية، أرقى درجات الاقتدار والقوة في الذات وفي الجماعة، فقد أثبت هذه القوة الضاربة جدارتها في تحقيق الاقتدار على الاصعدة كافة، سواءً في إطار الجماعة او الافراد.
بيد أن البحث في أمر الاقتدار لدى بعض الباحثين والمختصين، يبتعد قليلاً عن الجماعة ليأخذ منحى فردياً لوجود المساعي الرامية لانجاح عملية البناء وإحياء الحالة في النفس الانسانية، ولعل هذا يكون الأقرب الى الصواب علمياً ومنطقياً، فالفرد المقتدر ذهنياً وبدنياً ومعنوياً ونفسياً، هو الذي سيشكل نواة لشريحة المقتدرين والمتوثبين نحو التغيير والتقدم.
وحسب المعنيين فان الاقتدار الشخصي "تعبير عن الكفاءة الشخصية، ومن مقوماتها اللياقة البدنية والصحة النفسية، ومن مقوماتها القدرة على الانفتاح على العالم ومواجهة التحديات الخارجية وضغوطاتها وأزماتها، وما يتطلبه الخروج من حالة التبعية"، وهذا وغيره، تعبير عن أولوية الجهد الذاتي في بناء الاقتدار والقوة، فإن اردنا النجاح في هذا البناء، لابد من الانطلاق من الفرد أولاً، من ثم الانتقال الى المرحلة اللاحقة ببناء الاقتدار على مستوى الجماعة، كما حصل اليوم في العراق في مثالنا الرائع؛ الحشد الشعبي.
وعندما نتابع أحوال المقاتلين من الحشد الشعبي وايضاً سائر القوات المسلحة العراقية وهي تخوض معارك شرسة مع عناصر داعش، يتضح لنا مدى القصور الذي يضرب بعض مؤسساتنا الثقافية بإهمال الجانب النفسي في قدرات هؤلاء الابطال، والاقتصار على مظاهر الشجاعة والاقدام والانتصارات التي يحققونها، لاسيما في الآونة الاخيرة، في حين لا يخفى على المتابع والمختص ما تخفيه هذه القدرات من قوى كامنة في النفوس صنعت هذا الاقتدار العظيم.
لنتساءل بأمانة: ما الذي يدفع رجل شاب متزوج وله اطفال عدّة، ربما اثنان او ثلاثة او حتى اربعة وأكثر، من أن يهجر الدفء العائلي وسكون البيت الجميل مع تواضعه، مع مردود مالي بسيط يسد حاجة يومه، حتى يندفع الى جبهات القتال مصرّاً على ملاقاة الحتوف في الخطوط الامامية حيث يعرف الجميع اسلوب الغدر والفتك الداعشي وعدم اتباعهم القتال المعهود عسكرياً وجهاً لوجه، إنما بزج الانتحاريين بسياراتهم المخففة، او استخدام اسلوب القنص من بعيد، او تشريك المباني وغيرها؟.
قصص وحكايات لا تُعد تخرج يومياً من خلال وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي منذ فترة طويلة، والعالم يسمع ويرى، كما يسمع ويرى الشعب العراقي والشريحة المثقفة. جريح يُصر على العودة الى الجبهة، أو أب يحثّ أبنه للالتحاق بأخيه الشهيد وعدم البقاء في البيت، ومشاهد تهز المشاعر كما تثير التساؤلات عن السر وراء كل ذلك.
فاذا كانت "القوة المعرفية" و"الحصانة الاخلاقية" "وتكريس الهوية" من مقومات الاقتدار الذاتي الذي يوصي به المعنيون بهذا الشأن، فان التجربة العراقية تمثل فرصة ذهبية للمزيد من الإثراء وإنجاح تجربة الاقتدار، ليس في الجانب العسكري وحسب، وإنما في البنية التحتية له والقاعدة التي تنطلق منها، مثل الاقتدار في الجانب الثقافي والاقتدار في الجانب النفسي والمعنوي بل وحتى الاقتدار المادي، فهي تشكل منظومة متكاملة تصنع اقتداراً ناجزاً على الارض.
ففي مسألة الانتماء والهوية فان ابطال الحشد الشعبي قدموا للعالم ملامح القوة الخفية لديهم، بما يزودهم بقدرات معنوية هائلة تجعلهم يقدمون على الموت بكامل وعيهم وقناعتهم وشفافية أهدافهم، وهي قوة الإيمان التي ربما تغيب عن الباحثين في أمر الاقتدار او علم النفس الايجابي، ولا أدلّ على ذلك من الحياة الجديدة التي يكتسبها الشهيد بعد استشهاده، بالأب والأم والزوجة والاولاد والاقرباء وسائر افراد المجتمع يعدونه مفخرة لهم، لانه ضحى من أجل قيمه ومبادئه بإيمان راسخ وعزم لم يلن في ساحة المعركة، فضلاً عن أنه يضحى من أجل الارض والعرض والمقدسات، وهي الاخرى تُعد منطلقات لصنع الاقتدار تستحق البحث والإثراء علمياً.
وعندما يكون البحث في أمر انساني وحيوي ذو بعد استراتيجي – حسب المصطلح السياسي- فان الاقتدار الكامل من الجوانب كافة، سيخلق أرضية معرفية لسائر شرائح المجتمع بأن يكون على بيّنة من مكونات الحدث وأبطال الساحة ومدى تأثيرهم على الواقع الذي يعيشونه، لا أن يكون التعاطي مع المقاتلين و عوائل الشهداء ومجمل المواجهة المحتدمة مع داعش، منطلقة من مشاعر عاطفية محضة.
اضف تعليق