18631

 

فارس حامد عبد الكريم

 

شاع في مجتمعاتنا الشرق اوسطية مصطلح أو مفهوم مفاده ان السياسة ممارسة (قذرة).

والحال ان هذا المفهوم الباطل المشكوك في مصدره ونواياه ما هو في الواقع إلا مفردة من قائمة مفاهيم مشبوهة اقنعنا بها المستعمر القديم وادخلها في اذهاننا في غفلة من الزمن. وعلى هذا النحو من القناعة الزائفة، فإنه من الممكن والمشروع جداً ممارسة أـسوء الاساليب السياسية الملتوية وأبشعها تحت يافطة (السياسة ممارسة قذرة) دون اي لوم اخلاقي او شرعي!!!.

 وإذا كان هذا المفهوم قد شاع بيننا حتى كاد ان يصبح من البديهيات، إلا ان معطيات التحليل المنطقي للواقع السياسي ولممارسات السياسات الوطنية في الدول الديمقراطية القديمة والحديثة، تثبت إن السياسة هي ليست كذلك على الأغلب الأعم، للأسباب التالية:

1. ان المفهوم أو الفكرة اعلاه هي في الواقع عملية غسيل دماغ لأبناء الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار بكل اشكاله عبر التاريخ القديم أو الحديث، سواء كان الاستعمار عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وذلك لتبرير السياسات العدوانية القائمة على سرقة خيرات تلك الشعوب وانتهاك حرماتها الوطنية، فبما ان السياسة (قذرة) فعلى تلك الشعوب ان تقبل الامر الواقع.

2. ان السياسة داخل المجتمعات الديمقراطية الغربية هي سياسة نظيفة جداً (ومعقمة للغاية)، وأية سياسة يمارسها رجل السياسة هناك تتضمن معنى القذارة أو النفاق أو اللف والدوران فإنها ستواجه بالإستنكار الشديد بل وبالاحتقار من تلك الشعوب وسيلقى ذلك السياسي المنافق في سلة المهملات ولن يجد فرصة لنيل أي قبول شعبي مرة أخرى (لو بكى العمر كله).

2. ان السياسات المتبعة في إطار العلاقات فيما بين الدول الغربية، هي سياسة نظيفة جداً (ومعقمة للغاية) ايضاً، ومبنية على توزيع الأدوار والمصالح بكل ثقة ودون لف أو دوران أو مراوغة، وهذا هو التعامل في الإتحاد الاوربي وفي الأحلاف العسكرية، فلا حديث هنا عن سياسات قذرة ولا نفاق في هذا المقام مطلقاً، وأي تهديد مباشر لأحد الدول الاعضاء اياً كان سببه أو تهديد لمصالحه سيهب الجميع لمساندته ولو تطلب الامر تدخلاً عسكرياً، فأين القذارة في الموضوع.

3. ان السياسات الوطنية التي تقوم على الصراع السياسي الانتخابي للوصول إلى سدة الحكم وتلك السياسة الدولية التي تبنى على المصالح المتبادلة حصراً، لا تعني انها سياسة عديمة الشرف، بل انها تتبنى مضمون الشرف والأخلاقيات العالية من خلال تنفيذ السياسات المعلنة والوعود اثناء الحملات الانتخابية أو تنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المبنية على المصالح.

وعلى هذا النحو يفخر الساسة في الغرب دوماً امام شعوبهم بأنهم نفذوا التزاماتهم ووعودهم الانتخابية وان المعاهدات الدولية المبرمة قد احترمت.

4. ان مفهوم (السياسة القذرة) ونظيره (نظرية المؤامرة) قد ولد لدينا الشك واليأس وعدم الثقة الدائم، وهكذا خسرنا الكثير من المصالح وفرص التقدم.

5. بعد ان غادر المستعمر القديم الأراضي التي كانت تحت ادارته مباشرة وتخلص من نفقاتها الباهظة، وسلمها لعملائه من ابناء تلك المستعمرات، تأكد هذا المفهوم عبر سياسات الحكومات العميلة، ولكن بصورته الأبشع والأقذر، وهكذا فعل الحكام (الوطنيون) المنصبون بشعوبهم ما لم يفعله المستعمر نفسه، فكبتت الحريات العامة بكل قسوة واقيمت المحاكم الخاصة والسرية وسادت صور ومشاهد الاعتقالات العشوائية وزج المعارضين السياسيين في احواض التيزاب وأقيمت المشانق العلنية والإعدامات الجماعية وبرر الفساد والغدر بكل صوره وانتهكت الحرمات واضحى التنكر لكل العهود الوطنية امراً وممارسة معتادة، وغلفت كلها بخطابات وطنية رنانة تواجه اعداء مزعومين ومؤامرات وهمية لا تنتهي تبرر القمع والقتل، حتى أضحت هذه الممارسات سمة مشتركة لكل الدكتاتوريات الوطنية تحت يافطة (السياسة ممارسة قذرة).

6. إذا كانت السياسة ممارسة قذرة، فما هو مصدر هذا التطور الحضاري والاجتماعي الهائل في حياة الناس وعملهم في مختلف ارجاء المعمورة؟ وكيف ازدهرت المدن وتطورت النظم القانونية لتكون في خدمة الناس ورفاههم وأمنهم؟

 بينما بقينا نحن تحت مطرقة الموت والفقر والجهل والفساد وفقدان الآمن لا نثق بحكامنا ولا يثقون بنا إبتداءاً، لأن السياسة (ممارسة قذرة).

7. بعد سقوط النظام السابق ودخول العراق في تجربة ديمقراطية جديدة بنى عليها ابناء الشعب الكثير من الآمال وتقدمت الجموع المليونية لأول مرة في تاريخ العراق لتعبر عن إرادتها الحرة عبر صناديق الانتخابات التي غطت كل ربوع الوطن، لعب مصطلح (السياسة ممارسة قذرة) دوره بشكل منقطع النظير عبر تأجيج المشاعر الطائفية والعنصرية وتأليب الناس بعضهم على بعض، فاشتعلت الفتنة الطائفية والقتل على الهوية وقتل الناس بكل مكوناتهم بالجملة بدم بارد دون أي وازع من ضمير أو اخلاق فالسياسة (ممارسة قذرة).

سؤال: من يفعل هذا بالعراقيين ولماذا؟ ماهذه القدرة الرهيبة على القتل المستمر واستباحة ارواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم، هل هم أناس تلبسهم الشيطان ام انهم اناس من اتباع مفهوم (السياسة ممارسة قذرة) إلى اقصى حالات التطرف.

نتيجة: ان مفهوم (السياسة ممارسة قذرة) هو مفهوم خاص بضحايا الاستعمار القديم والحديث، وعلينا ان نواجهه ونحطمه وان نبني علاقاتنا الوطنية على معاني الشرف والثقة والاحترام والالتزام بالعهود والوعود، وأن نبني علاقاتنا الدولية على اساس المصالح الوطنية وأن نعزز الثقة الاحترام في علاقاتنا الدولية وهذه هي السيادة الوطنية الحقيقية، فالسياسة عمل طاهر ونبيل مادامت في طريق تحقيق طموحات وآمال ابناء العراق المشروعة، وليست هي ممارسة قذرة بالضرورة.

* استاذ جامعي ـــــــ النائب السابق لرئيس هيئة النزاهة 

http://farisalajrish.blogspot.com

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

 

اضف تعليق