ينشغل العالم هذه الأيام بحدث خرج الى النور من بريطانيا، وهو انتخاب مسلم بريطاني من أصول باكستانية لمنصب عمدة مدينة لندن العاصمة عن حزب العمال البريطاني الذي ثارت ضده عدة اتهامات في الآونة الأخيرة.
وهو نفس الحزب الذي يتزعمه جيريمي كوربن النائب اليساري المتحمّس لقضايا الكادحين والشعوب المستضعفة، والذي ترشح زعيما للحزب بواسطة بضعة أصوات لنواب بعضهم قال صراحة إنه لا ينوي التصويت له، لكنه ضم اسمه إلى أوراق الترشيح لإتاحة المجال أمام (عرض كل الآراء داخل الحزب). ولكن عند هذا القول تحوّلت قوة الدفع من نواب الحزب إلى القواعد المحلية والنقابات والناشطين، ففاز كوربن في مفاجأة من «العيار الثقيل»، أمام صدمة التيارات المعتدلة داخل الحزب التي رأت أن وجود سياسي بهذه الراديكالية يعني منفى اختياريًا للحزب بعيدًا عن نعيم السلطة.
فوز صديق خان بهذا المنصب في بريطانيا وبعد اكثر من عقدين على تسيد المحافظين سدة السلطة في الحكومة، والتي لم يتورعوا خلالها من مغازلة التيارات العنصرية والمناوئة للأجانب واللاجئين، واستنهاض عصبيات مريضة عبر إعلام فعّال لا يرحم. وكذلك كان لديهم دائمًا الملاذ الأخير والمضمون ألا وهو ورقة المهاجرين وتوافد الأجانب، وخصوصًا من شبه القارة الهندية.
ليس بعيدا من هذا الحدث، ماتنوي القيام به عدة بلديات من تسيير الحافلات الإنجليزية الشهيرة في شوارع لندن وبرمنجهام، ومانشستر، طوال شهر رمضان وهي تحمل دعايات دينية تقول "سبحان الله"، وقد تمت الموافقة على ذلك من جانب السلطات الإنجليزية دون تردد، تعبيراً عن إحترام المجتمع المسلم في بريطانيا، ورغبة في جميع التبرعات والتعاطف معنوياً مع ضحايا الحرب في سوريا.
على الجانب الاخر من المحيط، يقف العالم أيضا على قدميه وهو يترقب ما ستؤول اليه نتيجة الصراع الانتخابي لاختيار مرشح عن الحزب الجمهوري، وكان دونالد ترامب قد اكتسح جميع المتنافسين معه على ترشيح الحزب، مما أوقع قادة هذا الحزب في حرج شديد نتيجة لتصريحات ترامب المثيرة للجدل، وامتد هذا الرفض الى بقية دول العالم..
ولعل أشهر تصريحاته هي:
سأبني جدارا عظيما على حدودنا الجنوبية وسأجعل مكسيكو تدفع ثمن هذا الجدار.
عندما ترسل مكسيكو شعبها الينا فهم لا يرسلون الأفضل منهم. هم يجلبون المخدرات، هم يجلبون الجريمة، هم مغتصبون، وبعضهم افترض، أناس جيدون.
دونالد ترامب يدعو الى منع شامل وكامل لدخول المسلمين الى الولايات المتحدة، حتى يكتشف نواب دولتنا ما يجري.
سأقوم بإعادة أسلوب التحقيق عبر الايهام بالاغراق وسأعيد جحيما مما هو اسوأ من الايهام بالإغراق.
ما لن افعله هو اخذ 200 الف سوري قد يكونون داعشيين.
ما الذي نستفيده من المثالين البريطاني والامريكي؟
في المثال البريطاني نجد تحققا لمفهوم التسامح والانشغال به وتحققه على ارض الواقع، رغم كل الظروف التي سبقت هذا التحقق..
وهو انشغال استمر لقرون طويلة حتى وصل الى ما وصل اليه بهذه الصورة، ولا يمكن له ان يتوقف عن التطور والتقدم وتقديم نماذج جديدة ناجحة له.
ان الانشغال بقضية التسامح مع المختلف وتقبله كانت ولاتزال من القوى المحركة للتفكير الليبرالي ابتداء من ميلتون ولوك ومرورا بكانط وميل وانتهاء ببرلن ورولز، وسواء اكان هذا الاهتمام قائما على أساس الشك في تفوق أي تصور معين عن الحياة الطيبة على ماسواه من التصورات (مما يترتب عليه الشك في احقية الدولة في فرض احد هذه التصورات) ام كان قائما على أساس افتنراض ان الفرد المستقل قادر على اختيار أهدافه الخاصة بنفسه، وعلى تحمل المسؤولية عن افعاله..
وهنا تظهر اشكال متعددة من الشكوك والاسئلة العصية على الحل من قبيل: هل من الممكن او المرغوب فيه او المقدور عليه بالنسبة للدولة ان تلزم الحياد بين ما يتبعه الناس من المثل العليا المتعارضة؟ وهل يجوز ان نمنح الحق في حرية التعبير لهؤلاء الذين ينكرون هذا الحق على الاخرين؟ وهل تسمح الديمقراطية "النيابية" حقا، للمواطنين ان يعبروا عن كل ما لديهم من ميول ونزعات مختلفة وان يسعوا في تحقيقها؟ وكيف تفسر النزعة التحررية إمكانية انبثاق المثل الخاصة بمفهوم الخير من بعض الاشكال الخاصة من التنظيمات الاجتماعية (بدلا من تصور اسبقية هذه المثل في الوجود على هذه التنظيمات) او كيف تعزز النزعة التحررية هذا الراي؟
يقوم المفهوم المعاصر للتسامح على مبادئ حقوق الإنسان العالمية، لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 تشرين الثاني 1995 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي.
يتضمن مفهوم التسامح العناصر التالية:
• قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع.
• التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني، والحريات الأساسية للآخر.
• التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.
• إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
كما أنها ربطت بين مفهوم التسامح والسلام على أساس أن هذا الأخير لن يرسخ كثقافة إلا بوجود الأول. فالتسامح على حد تعبير فدريكو مايور شرط ضروري للسلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب.
في المثال الثاني، وهو الأمريكي، نشهد تحولا من احترام التسامح والتعددية الى صدام الحضارات والثقافات والتي لايتورع المرشح الجمهوري من اللجوء اليها لكسب أصوات مؤيديه، وهو مايعني إضافة الى أسباب أخرى موضوعية، من قبيل الاقتصاد والمشاكل الاجتماعية، ان المجتمع الأمريكي ورغم توجهاته المنفتحة نحو الثقافات الأخرى، قد نشهد له تراجعا عن هذا الانفتاح اذا فاز ترامب او غيره مستقبلا ممن يحمل نفس التوجهات نحو الاخرين والتي لاتقوم على احترام التعددية الثقافية والحضارية، بل على الصدام مع تلك الثقافات والحضارات.
اضف تعليق