لم تنتهِ المفاجآت التي حملتها في جعبتها تداعيات حادثة "شارلي ايبدو" في فرنسا، سيما وان تموجات الاعتداء على الصحيفة الساخرة قد طالت العديد من دول العالم، اضافة الى ارتداداتها المباشرة وغير المباشرة على ملفات سياسية حساسة ومهمة، وهو امر تناوله الكثير من المحللين والباحثين من زواياه المختلفة، خصوصا فيما يتعلق بعلاقة "شارل ايبدو" بالقضية الفلسطينية والسلام مع اسرائيل، وعلاقة تركيا بموضوع الاعتداءات في باريس...الخ.
لكن ما علاقة حادثة "شارل ايبدو" بالمفاوضات الجارية حول الملف النووي الايراني؟
مأزق الضغوطات السياسية
في البداية تحدث وزير الخارجية الايراني "محمد جواد ظريف" عن "ممارسة الضغوط" اثناء المفاوضات الجارية حول الملف النووي الايراني، مؤكدا انه "لا يمكن الجمع بين سياسة الضغط والتفاوض، اذا رغبت الدول الغربية في التفاوض مع جمهورية ايران الاسلامية، فعليها اتخاذ قرار سياسي يمكن ان يكون صعبا بالنسبة لبعضها والتخلي عن الرغبة في ممارسة الضغط"، طبعا الضغوط التي تمارس ضد ايران لا تقتصر على حسم النزاع في القضايا الخلافية النووية، لان هذه القضايا يمكن حلها عن طريق التفاوض او تقديم التنازلات وليس عن طريق "ممارسة الضغوط".
وتأتي الاجتماعات الطويلة والمكوكية بين وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية ووزير خارجية ايران، اضافة الى الاخير مع وزير خارجية المانيا وفرنسا حول الملف النووي، متزامنة مع لقاءات مهمة جمعت وتجمع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكي (وتعتبر فرنسا شريكا اساسيا في هذا التحالف)، كما يجتمع وزراء خارجية اكثر من 20 دولة في لندن (الذي زار رئيس وزراها الولايات المتحدة الامريكية مؤخرا) لمناقشة تعزيز سبل التعاون في مكافحة الارهاب (والتي تتصدرها قضية اعتداءات باريس) بعد ايام قليلة، كما صرح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، في سياق الاوضاع الاخيرة خصوصا ما يتعلق بقضايا الشرق الاوسط والملف النووي، ان "على ايران توضيح مواقفها ونواياها والمشاركة في حل الازمات في هذه المنطقة"، واضاف "تتحمل ايران كذلك حيزا من المسؤولية عن حل الازمات".
بالمقابل فان ايران، التي لم تحسم امرها –فيما يبدو- بشأن التعاون بشكل موسع مع التحالف الدولي او الولايات المتحدة الامريكية، في حل الازمات العالقة في الشرق الاوسط، تحاول مسك العصا من الوسط، فهي تعاني ايضا من نزاع حول السلطة بين المحافظين والاصلاحيين من جهة، والخوف من دخولها في معادلة "التعاون في مجال الارهاب مقابل الملف النووي"، ما يعني قبولها الضمني بالتحالف الدولي الذي وصفته في السابق "بالغامض والمثير للشكوك".
فرصه للمتشددين
كما هو معلوم فان هناك من يعارض ابرام اي اتفاق نووي او شراكة من اي نوع بين الولايات المتحدة الامريكية وايران، من داخل السلطة الامريكية والايرانية، وهذه الجهات لها نفوذ واسع، قد يفوق في بعض الاحيان نفوذ وسلطة الراغبين بعقد اتفاق او شراكة "تاريخيه" بين البلدين، فالكونغرس الامريكي (الذي يسيطر عليه الجمهوريين في الوقت الحاضر) من المعارضين لاتفاق قد يسيء للولايات المتحدة، كما انهم يدفعون باتجاه فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية تجاه ايران، والتي عدها الرئيس الامريكي "باراك اوباما" بمثابة "اطلاق النار"، وهدد "باستخدام حق النقض ضد قانون سيوضع على مكتبي، وسوف أتحدث إلى الشعب الأمريكي حول لماذا أقوم بذلك"، ويعني بذلك العقوبات الاقتصادية المقترحة من الكونغرس.
بالمقابل فان المحافظين في ايران، مارسوا ضغوط اضافية تزامنا مع احداث الرسوم المسيئة للرسول محمد (ص)، وعادت شعارات (الموت لأمريكا) مجددا في خطب الجمعة، بعد ان قال آيةالله موحدي في الخطبة ان الاوروبيين "يعتبرون تأييد هذه الجريمة تأييدا للحرية، ترتكبون خطأ، هذه ليست حرية، هذه وحشية وهذا عار"، في حين هتف المصلون: "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل" و"الموت لبريطانيا"، كما تنتظر ايران مظاهرات كبرى احتجاجا على تكرار الرسوم المسيئة، واكد وزير خارجية ايران قال قبل إجرائه محادثات مع نظيره الأمريكي إن "الحوارالجاد مع الغرب سيكون أسهل إذا احترم حساسيات المسلمين التي أثارتها أحدث رسوم الكاريكاتير في صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية"، كما اعلنت وكالة الانباء الايرانية الرسمية ان القضاء الايراني امر بحظر الصحيفة الاصلاحية "ماردومايمروز" لأنها اوردت في صدر صفحتها الاول عنوان بالخط العريض يتضمن عبارة "انا شارلي"، وهي ثالث صحيفة اصلاحية (تدافع عن سياسيات الرئيس الايراني حسن روحاني) تغلق في ايران.
بالتالي فان احداث "شارلي ايبدو" قد تكون "فرصة مثالية" لتعقيد المشهد النووي مجددا، وهو امر يشعر بحراجته المؤيدون لمواصلة المفاوضات والتوصل الى اتفاق لا يقتصر على الملف النووي وانما يتعداه لشراكات اخرى.
عولمة الازمات
ما يمكن الحديث عنه ربما يكون مجرد تكهنات، او قراءة ثانية لما بين السطور لخلفيات الاحداث المعقدة، لكن التداخل الكبير بين الازمات وعولمتها، جعل ترابط الملفات الحساسة بعضها بالبعض الاخر مفتوحا على كل الاحتمالات، وان تبادل الصفقات وممارسة الضغوط السياسية الى جانب المفاوضات وتقديم التنازلات بين مختلف الاطراف الدولية والاقليمية الفاعلة، اصبح من اساسيات المرحلة الراهنة، خصوصا عندما يتم الحديث عن العمل "بسياسة الواقع"، التي لا تعترف "بعدو دائم" ولا "صديق دائم" وانما هناك "مصالح دائمة"، بالتالي فان ربط الملف النووي الايراني بأحداث "شارلي ايبدو" او مكافحة الارهاب الذي يقف خلف "شارلي ايبدو" امر وارد ولا يتم استبعاده، وان فرصة الحوار النووي بين ايران والدول الكبرى الست، قد تعتبر مثالية لطرح قضايا اخرى تتعلق بهذا الجانب، وليس بالضرورة ان يتم الحديث عنه بصورة مباشرة.
اضف تعليق