ليس صحيحا ما يُشاع عما يحدث في المشهد السياسي العراقي بأنه سلبي أو فوضوي، أو لا يصب في صالح العراقيين، بل العكس تماما هو ما يحدث الآن، فظاهرة الاحتجاج والاعتصام وما يشبه ذلك من نشاطات تقوم بها الجماهير العراقية، إنما هو دليل على حزمة من الأمور المهمة، منها أننا نعيش في ظل نظام سياسي يسمح لشعبه بحق التظاهر، وهو حق لا يتوافر في دول كثيرة، كذلك ملاحظ وجود سلوك جيد للأجهزة الأمنية التي تقوم بدورها بحماية المتظاهرين، ولم تكن في الموقع المضاد لهم.
هذه الظاهرة يعيشها العراقيون بصورة دورية في كل جمعة، وهو أمر يجعلنا نحمد الله على إمكانية (التنفيس) والتعبير عن آلامنا وتطلعاتنا وطموحاتنا، ومطالبنا المشروعة من الحكومة، وتأتي مثل هذه الحقوق ضمن الدول التي ترعى الديمقراطية اضافة الى وجود بوادر وعي للمجتمع نفس، فهناك مجموعة مقومات تدعم قيام الدولة المدنية وتثبيت أركانها ومؤسساتها، ومن دونها يغدو بناء الدولة التي تحمي الحقوق والحريات مستحيلا، بمعنى أوضح، لا يمكن بناء الدولة التي يطمح لها الفقراء وعموم الشعب، من دون اعتماد مقومات أساسية، لأن غيابها أو ضعفها يشكل هدرا أكيدا لجميع الفرص التي تهدف الى بناء دولة تحترم حقوق الشعب وتحمي حقوق المواطنين لاسيما في مجال الحريات والمطالبة بالخدمات وفرص العمل، والقضاء على الفساد ومظاهرة كما يحدث في مظاهرات اليوم.
ويشترط أن تكون هذه الفعاليات الاحتجاجية ذات أهداف واضحة، مثلما ينبغي أن تدخل ضمن سلسلة المطالب التي يحتاجها الشعب بصورة الفعلية، مع أهمية إعلان التقصير والعجز الذي تعاني منه المؤسسات والدوائر الحكومية ازاء ما يحتاجه الشعب لتحقيق حياة كريمة تليق بالبشر، بهذا المعنى فإن فعالية التظاهر تنتمي الى النشاطات المدنية المشروعة والخلاقة، كونها تهدف الى التصحيح، والى تنبيه الدولة والحكومة والجهات المعنية الى مواطئ ومكامن الخلل هنا او هناك، كما انها قيمة جوهرية لمحاربة الفساد بشتى اشكاله واصنافه، في مفاصل الحكومة والدولة والجهاز الحكومي الاداري، لذا من غير الممكن اعتبار مثل هذه الأنشطة داخلة ضمن اطار الفوضى السياسية، إلا في حالة افتقارها لسمة الانضباط، ولكننا نلاحظ سلمية التظاهرات ترافق هذه الانشطة، ونلاحظ حالة من الانضباط ليست مسبوقة، كما أنها تكاد تشكل سمة مهمة يتفرد بها الجمهور العراقي عن سواه، فلم يحدث أن تجاوز المتظاهرون حدود السلمية إلا في حالات نادرة جدا، ولا يمكن أن تؤثر على الطابع السلمية لهذه الفعالية المدنية الراقية.
حقوق تكفلها الدولة القوية
عندما تحدث مظاهرات بمئات الآلاف تغص فيها شوارع العصمة والمدن العراقية، من دون أن يرافق ذلك حالة من الاذى او التصادم او المشاجرات بين المتظاهرين واجهزة الأمن، فهذا في الحقيقة دليل نمو في الوعي السياسي للطرفين، المواطن ورجل الأمن، فنحن غالبا ما نشاهد المشاجرات في دول متقدمة (اوربية) تحدث بين متظاهرين وبين رجال الامن المدرعين بحواجز زجاجية يحملونها بأيديهم كي يصدو بها ضربات المتظاهرين لهم، مثل هذه المظاهر لم نشاهدها في الاحتجاجات والاعتصامات في العاصمة والمدن العراقية إلا في حالات نادرة، بمعنى أن الطابع السلمي هو المظهر السائد لها.
ومع أننا نفهم ونعرف بأن القوانين والحريات وجميع التشريعات الدولية وحتى المحلية تحمي مثل هذه الحقوق، إلا أننا نظن بأن مظاهرات العراق التي استمرت سنوات متتالية، تحمل صفة السلمية اكثر من سواها، خاصة ان الحكومة لم تبادر لمنعها، اذ ليس هناك دولة او حكومة تدّعي المدنية تذهب لمنع حق التظاهر علنا، حتى الحكومات المتسلطة القسرية تخشى من اعلان منع التظاهرات علنا، لكنها قد تلجأ الى الكثير من الخطط والاساليب الخفية والعلنية لكي تشل التظاهرات وتمنعها من تحقيق النتائج المبتغاة، لأن التظاهرات وسيلة عصرية لتصحيح الاخطاء الحكومية والادارية، لاسيما الاخطاء والجرائم التي تتعلق بالفساد وغسيل الاموال والاختلاس والتجاوز على المال العام، وهي اسباب يعلنها المتظاهرون في جميع المدن كأهداف ذات أولوية لمظاهراتهم ومطالبهم، فالفساد واجتثاث الرؤوس الفاسدة واسترداد الأموال المنهوبة من ثروات العراقيين بطرق مختلفة وصفقات مشبوهة، هي اول وأهم اهداف المحتجين والمتظاهرين.
وقد شبّه بعض المراقبين المظاهرات العراقية، بأنها ذات نفس طويل، يدل على تحلي العراقيين بالصبر، بالاضافة الى أنهم يتمتعون بسمة أو صفة مهمة هي الصبر، فهؤلاء المحتجون يبدو أنهم صبورين بما يكفي، لدرجة أنهم واصلوا التظاهر سنوات متتالية منذ سنة 2011 وحتى الآن، وهذه حالة قد تكون نادرة في دول أخرى اكثر تقدما في المجال المدني من العراق، ولكن هناك ميزة للجمهور العراقي تتمثل بوجود الأمل لديهم بالتغيير نحو الأفضل بالطرق السلمية وهذه ميزة تُحسب لهم في ظل الظروف المعقدة التي تحيط بهم.
اسلوب التظاهر المدني الراقي
بالنتيجة لابد أن يبقى اسلوب التظاهر السلمي سمة أساسية تطبع المظاهرات العراقية، لأسباب عديدة اولها كي تبقى هذه الفعالية مدنية راقية، وخالية من الأذى والمخاطر، ودليل على تطور وارتقاء المجتمع، حيث يوصف المتظاهرون باتباع السبل السلمية لتحقيق مطالب مشروعة، ولكن أحيانا قد تُستثمر هذه التظاهرات بطريقة خاطئة، فيتم توظيفها في غير محلها واهدافها، لاسيما اذا كانت خاضعة لاهداف خارجية او داخلية لا تهدف الى التصحيح السليم، بل تخضع لتصفية الحسابات السياسية بين الخصوم، الامر الذي قد ينعكس بالضرر الفادح على الشعب، لذا من المهم جدا أن يتنبّه المتظاهرون جميعا وقادتهم، خاصة بسطاء الوعي والثقافة منهم، يتنبهون الى المحاولات التي قد تجر المتظاهرين والتظاهر الى طرق واهداف ملتوية لا يريدها المتظاهرون ولا يبحثون عنها اصلا، بل هي اهداف قد تكون مدسوسة من لدن جهات ودول اقليمية او دولية تسعى الى تخريب وحدة الشعب من خلال جعل التظاهرات ساحة للتطرف والضغينة بين ابناء الشعب الواحد.
لذا من المهم جدا أن يتنبه المتظاهرون الى مثل هذه الخطط الخبيثة، بمعنى عليهم أن يتنبهوا الى الدسائس، وأن تبقى الوحدة الوطنية هي الفنار العالي الذي ينظر اليه الجميع ويهتدي من خلالها الى النتائج الصحيحة، وهي معروفة وأولها الحفاظ على وحدة الشعب ووحدة البلاد ايضا، وعدم اتاحة الفرصة للمتصيدين بالماء العكر، او السماح لبعضهم بركوب الموجة لتحقيق مغانم معروفة جلها مادي واضح للجميع.
من الواضح للجميع أننا كعراقيين نعيش اليوم اوضاعا قد تبدو ملتبسة، وخاصة ما يتعلق بالمظاهرات، ولكن الشرط الأهم هو سلميتها التي يجب أن تبقى مستمرة، لذا علينا جميعا وأعني العراقيين، أن نعرف اهمية التظاهرات، وأهمية الطابع السلمي لها، وعدم لجوء المتظاهرين الى الاضرار بموارد البلد ودورته الاقتصادية التي تهم ملايين العراقيين في شماله ووسطه وجنوبه وشرقه وغربه، وان لا تتحول حالة التظاهر الى عائق لتقدم البلاد بدلا من اهدافها الحقيقية التي تبتغي تقدم وتطور البلد من خلال تصحيح الاخطاء الحكومية بحق الشعب، وهي اخطاء باتت معروفة للجميع، لاسيما ما يتعلق بالفساد الاداري والمالي، وبغسيل الاموال، وبحالات التزوير والشبهات التي تدور حول ملفات دوائر ومؤسسات مالية مهمة مثل (البنك المركزي) على سبيل المثال، كل هذه الامور تحتاج الى مواصلة حق التظاهر وحتى الاعتصام، ولكن ينبغي أن تبقى الطابع السلمي هو الاساس الأهم والأقوى الذي تستند عليه هذه النشاطات الاحتجاجية المشروعة.
اضف تعليق