لا نجانب الحقيقة اذا قلنا أن العراق من بين قلائل الدول الغنية في العالم، التي تنثر الاموال والثروة بلا مقابل، على شكل رواتب خيالية ومنح مالية ومساعدات تقدر مجموعاً بمليارات الدولارات، ففي الوقت الذي تفكر الدول النامية – وليكن العراق منها- بالاستفادة من أي فرصة للعمل والانتاج لرفع مستوى النمو وتحقيق اقتصاد سليم، نجد أن الانسان العراقي لا يفكر – على الأغلب- إلا بمستوى معيشته والحفاظ على دخل متوازن يضمن له قدرة شرائية مريحة، مع الاقرار بحقيقة الحاجة الماسة لدى شرائح في المجتمع الى الراتب التقاعدي او الحماية الاجتماعية وحتى مساعدة طلبة الجامعة وغير ذلك. ولكن؛ أن ترنو الانظار الى التقويم الجداري والايام المحددة لاستلام الراتب وتأمين الرزق، فهذا أمر ينبغي التوقف عنده مليّاً لاسيما وأن الخبراء يؤكدون باستمرار على محدودية المخزون النفطي في الدول ذات الاعتماد شبه الكلّي على هذا المصدر للتمويل.
الاعتبار من أخطاء الماضي
لقد مر الشعب العراقي بفترة إنتعاش اقتصادي ربما لم يشهده من قبل اواسط السبعينات، بفضل ما عُرف بـ "الطفرة النفطية"، وما عاضده من وجود ارضية خصبة للعمل والانتاج وتوفر فرص عمل عديدة لمعظم افراد المجتمع، لاسيما في قطاعي الزراعة والصناعة، الى جانب الورش الصناعية الصغيرة بدورها المؤثر في رفد الاسواق بالسلع المصنعة محلياً، وحسب المصادر فان العراق "كان عام 1975 ضمن فئة البلدان متوسط الدخل، وفي الشريحة الوسطى منها، ويقارن مع كوريا الجنوبية والبرتغال واسبانيا، وكان من المتوقع دخوله فئة البلدان عالية الدخل في عقدين...". بيد أن ذلك الرخاء والرفاهية تلاشت فجأة مع ظهور حقيقة السياسات الحاكمة آنذاك، وأنها كانت تنفق لتكسب ولتحقق مآرب خاصة كشفت هي بنفسها اللثام عنها بشن الحرب الكارثية على ايران. فضاعت الاحلام والاماني الجميلة لتتحول كوابيس موت ومطاردة وشجون طويلة ما يزال أنينها مسموعاً.
أحد اصحاب المطاعم في مدينة كربلاء المقدسة، وفي نهاية السبعينات فوجئ بمغادرة أحد ابرز العمال لديه، وعندما استفهم السبب اكتشف أنه توجه مع آخرين كُثر الى مراكز تسجيل اسماء المتطوعين الى الجيش برواتب مغرية تفوق ما يستلمه من عمله اليومي، مع جهد أقل.
لا يعني هذا، أن التشبث بهذا المنهج يفضي بالضرورة الى استيفاء فاتورة حرب، إنما يعزز الاعتقاد بضرورة تحويل السيولة المالية الى استثمارات وفرص عمل تعود بالفائدة على المواطن نفسه.
القوة الحقيقية للمال
قبل علماء الاقتصاد، لدينا رصيد ضخم من الوصايا عن النبي الأكرم والائمة المعصومين، عليهم السلام، تحثنا على العمل والانتاج وعدم الاتكال على الآخرين، وقد وردت احاديث عديدة بهذا الشأن منها ما روي عن النبي، صلى الله عليه وآله: "أن الله – تعالى- حين أهبط آدم عليه السلام، من الجنة أمره أن يحرث بيده فيأكل من كدّها بعد نعيم الجنة". أما أمير المؤمنين، عليه السلام، خلال حكمه، فانه – تقول الرواية- كان يضمن برنامجه اليومي العمل في بستان النخيل الذي زرعه بيده خلال 25 سنة، الى جانب متابعة شؤون الامة، من الجيش والقضاء والتعليم وقضايا اجتماعية مختلفة.
ومن هذا المنطلق عدّ المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- هذه الفقرة من جملة "فرص التقدم" في كتابه القيّم "عالم الغد". كما أنه يؤكد في عديد مؤلفاته وايضاً احاديثه على أهمية أن يكون الانسان منتجاً وموفراً للسيولة المالية، وما ينعكس هذا مباشرة على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، في مقدمتها معالجة ظاهرة الفقر والبطالة.
ان المعطيات السياسية والاقتصادية على ارض الواقع، تدعونا اليوم – وكل يوم- الى التنبّه لمسألة الاستفادة ما أمكن من السيولة المالية المتوفرة لمزيد من العمل والانتاج، وليس الاستهلاك وحسب، فمن المعروف أن معايير نمو الاقتصاد في أي بلد تختلف كثيراً عن مستوى تفكير البعض في بلادنا، من قبيل كثرة ناطحات السحاب والمشاريع الاستثمارية وعائدات البترول، فهذا وغيره، يفيد الشركات الاجنبية واقتصاديات دول وشعوب اخرى وليس شعوبنا التي ما برحت مختنقة بالتضخم والفساد والبطالة. ومثال ذلك السعودية التي يفترض ان المواطن هناك من اكثر الناس في العالم رفاهية ونعيماً، في حين إن الامر ليس بهذه السهولة، لان ببساطة معدل دخل الفرد السعودي مرتبط مباشرة بمعدل اسعار برميل النفط، فهل نحتمل بقاء الاسعار مرتفعة دائماً...؟!
المستشار الاقتصادي السعودي، عبد الرحمن القحطاني يتحدث عن توقعات صندوق النقد الدولي بان "نصيب الفرد سيصل إلى 97,7 ألف ريال حتى نهاية عام 2016م"، ولكنه يضيف "بأن حصة الفرد السعودي من إجمالي الناتج المحلي ليست مقياسا حقيقيا لدخل الفرد السعودي حيث ان أسعار النفط تؤثر بشكل كبير في نصيب الفرد السعودي في الناتج المحلي الإجمالي بسبب تأثيرها على إجمالي الناتج المحلي.
وبالرغم من الارقام المغرية لنصيب الفرد السعودي من إجمالي الناتج المحلي والذي بلغ 25.700 دولار، وما تتحدث عنه الاحصائيات للدول الثرية في العالم، بارتفاع متوسط الثروة الفردية للشخص البالغ الواحد في السعودية بنسبة 56 % في 2011 ليصل إلى 35.959 دولارا، وغيرها من الارقام، فان الحقيقة التي لن تغيب طويلاً أن عجز هذا الفرد عن الاسهام في عملية التنمية الاقتصادية يمثل ثغرة اقتصادية ونقطة ضعف خطيرة في البنية التحتية على صعيد المستقبل، والسبب هو افتقار السعودية كما امثالها من الدول الغنية بالنفط والفقيرة بالعلم والتكنولوجيا، لقواعد وعوامل التنمية الحقيقية كما هو الحال لدى بلدان مثل الصين والهند وغيرها.
وهذا يضعنا امام حقيقة اخرى – قبل الختام- بأن الاعتماد الى الاموال الجاهزة والسيولة النقدية المتدفقة من المصارف، يمثل بالحقيقة استنزافاً خطيراً للقدرات الاقتصادية اللازمة لضمان المستقبل، وهذا ما يجب على المعنيين في العراق الانتباه اليه بشدة.
اضف تعليق