عندما تنتاب الانسان مشاعر الخوف والضعف وخطر السقوط، يلجأ فوراً الى ما لديه من رصيد القوة من مصادر مختلفة؛ المادية منها والمعنوية، وكلما كانت أبعاد هذه المشاعر أوسع في المحيط الاجتماعي وعلى رقعة جغرافية أوسع، كانت الحاجة الى مصادر القوة أكبر، لأن المشكلة لن تكون للإنسان الفرد، إنما المجتمع والامة بأسرها. واذا تعرض هذا الانسان الى الخذلان، فان المساوئ تكون أقل كلفة، مما لو تعرض شعب بأكمله الى خذلان مما يعده خشبة الخلاص وفارس الأمل.
لذا نجد الشعوب تفكر دائماً بمصادر القوة في حياتها، كما تبحث عن البطل والرجل القوي على ارض الواقع، لا يكتفي بالشعارات والوعود والنظريات، وهذا ما شهدناه في التجارب الديكتاتورية في بلادنا الاسلامية التي عملت على كسب رضى الناس وتلبية متطلباتهم المعيشية، فحولت هذا الرضى الى مصدر قوة لشرعية وجودها ولمواجهة المعارضة، إلا اذا تحلّت الاخيرة بالذكاء الاجتماعي وقدمت رؤية متكاملة لمشروع تغيير يكشف فساد الواقع الراهن، حيئنذ؛ يمكن القول بأنها قادرة على الاخذ بزمام المبادرة، فتنقلب المعادلة لغير صالح الحاكم، وهكذا نجد حكاماً طالما غرقوا في سكرة التعظيم والتمجيد الجماهيري، وعلى حين غفلة، يتحولون الى حجرة صغيرة أمام تيار الجماهير الغاضب من سياسات التضليل وتزييف الحقائق.
فما هي مصادر هذه القوة الحقيقية التي تفوق في تأثيرها القوى المزيفة والمموهة بمظاهر السلطة والمال والسلاح والمخابرات وغيرها؟، ثمة عوامل عديدة يمكن ان تكون مصدراً للقوة الجماهيرية تعينها على أمر الإصلاح والتغيير، ثم التطلع الى آفاق التقدم، بيد أننا نشير الى عاملين أساس:
الاول: العلم والمعرفة
إن الجهل، قبل ان يكون حالة سلبية للشعوب، يمثل مغنماً كبيراً للحكام، لانه يبقى الناس فترة أطول في حالة اللاموقف إزاء مجمل الاوضاع، بل حتى إزاء مصيرهم، وإذا ارادوا التحرك باتجاه التغيير فانهم يعجزون عن اصابة الهدف واتخاذ الاجراءات الصائبة. لذا نجد جميع الحكام الفرديين يخشون النهضة العلمية والمعرفية على صعيد الفكر والتفكير، قبل النهضة الثورية على صعيد الشارع.
نعم؛ هنالك المكتبات والمنتديات ودور النشر والمطابع ومظاهر ثقافية اخرى، بيد أنها تدور في حلقة ضيقة لا تفتح أمام الفكر آفاق المعرفة بجوانب عديدة تتعلق بسنن الحياة، وكيف يجب ان يكون الانسان، وما هي معايير الوصول الى الحقيقة؟.
ولا أدلّ على الكم الهائل من أدبيات التيارات الفكرية والثقافية التي سادت سياسياً في البلاد الاسلامية ثم تحولت الى أوراق صفراء يخجل اصحابها من النظر اليها، فضلاً عن الآخرين، فيلجأون الى التعديل والتحوير لإضفاء المقبولية في الزمن الجديد الذي أماط اللثام عن حقيقة عجز هذه الافكار أن تكون مصدر قوة تستند اليها الشعوب في نهضتها الاقتصادية او مواجهة التحديات الخارجية، ولعل الكارثة التي حلّت بالشعوب العربية على وجه التحديد، بعد وجدت نفسها وحيدة في الساحة نهباً للأزمات الاقتصادية الفتاكة وللفساد العميق الى جانب سياسات القمع والتنكيل وخنق الحريات، هذا اذا غضينا النظر عما كان يسمى بـ "الصراع العربي – الاسرائيلي"! وتكون النتيجة أن يتحول الحكام "الأبطال" بملابسهم المزركشة المحشوة بالنياشين والرتب العسكرية، وشخصياتهم الكارتونية، الى أوراق خريفية تسحقها الاقدام.
أما الشعوب اليقظة، فانها هي التي تقرأ وتتابع وتراقب، وإن كان هذا خطوة من خطوات التغيير، والتعويض عمّا فات، والفضل في ذلك يعود الى النخبة المثقفة المنتجة للوعي التي تضيئ للناس معالم الطريق وتمكنها من الاختيار كما حصل في ايران في الفترة التي سبقت انهيار النظام الملكي ذو الألف وخمسمائة سنة في عمق التاريخ.
أما العامل الثاني: الاخلاق
هذا العامل ليس بالضرورة يُختزل في الظواهر العامة ومحاولة المحافظة عليها وعدم المساس بها رعاية للذوق العام، إنما هي بالحقيقة تشكل منظومة متكاملة من السلوك والعادات والاحكام والآداب ذات العلاقة بالبناء الحضاري لأي شعب وأمة، لذا نجد أن الحكام، وعلى طول الخط، يحرصون على سلب هذه القوة المعنوية الهائلة، من خلال تشويهها بطرح مفاهيم مزيفة تكرس الانانية واللامسؤولية في المجتمع وتدعو الى التقوقع وتفضيل لغة العنف والقسوة للتعامل مع مختلف القضايا، بدءاً من الجار والصديق ثم محيط العمل وسائر مفاصل المجتمع. وهذا ما يجعل مفهوم "الحياة للأقوى" سائداً ومقبولاً في بعض الاوساط، رغم أن نداء الفطرة لدى الكثير تصرخ بأن هذا مدعاة للسبعية والمذئبية – إن جاز التعبير-. ومن هنا انطلق الشاعر أحمد شوقي قائلاً: إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
وبما أن الفساد المالي والانحرافات في السياسة والادارة وسوء التخطيط ومجمل مظاهر الفشل في بعض الانظمة السياسية تخفي صراعاً مريراً مع الاخلاق والفضيلة الى درجة التغييب عن الواقع الاجتماعي والسياسي، فان إلغاء هذا الغياب مع إعادة الحياة الى المفاهيم والقيم التي هي بمعظمها انسانية تلامس الفطرة، بامكانها أن تعود قوة رادعة لأي انحراف في النظام الحاكم، كما تكون القاعدة الصلبة لانطلاق المجتمع والامة نحو التطور والتقدم لخدمة الجميع، وليس لفئة دون أخرى.
في ظل هكذا أجواء، يظهر الابطال وصانعوا الاحداث الكبرى، في شخص القائد او الفئة الطليعية في الامة، او ربما بين ابناء الامة نفسها. لان مصادر القوة هذه، ليست من سنخ النظريات والافكار التي يتعكّز عليها الحكام، كما كان في عهد الانظمة الشمولية والديكتاتورية، إنما هي لغة يفهمها الجميع وتمثل بالنسبة للقيادة والامة على حدٍ سواء، الهوية والانتماء. لنلاحظ الاستجابة الجماهيرية الباهرة في العراق لنداء المرجعية الدينية بضرورة مواجهة الزحف العسكري لتنظيم "داعش"، فالانسان لا يعرض نفسه للخطر ويخلف المعاناة لأهله وأطفاله، إلا اذا كان متسلحاً بقوة هائلة قبل قوة السلاح، وكما في الجبهة الخارجية لقتال داعش، يجب أن يكون هنالك أبطال على الجبهة الداخلية لإنجاح الحراك الجديد باتجاه التغيير الحقيقي وإزالة بؤر الفساد وإعادة الحياة الى العراق.
اضف تعليق