q

جاء في معظم مصادر اللغة العربية أن "السُكْر" ضد الصحو، و"السَكْران" ضد للصاحي. كما جاء في "لسان العرب": "السُكر ثلاثة: سكر الشباب، وسكر المال، وسكر السلطان"، وفي معظم الاحيان يقرأ الذهن؛ "السكر" و"السكران" على من يحتسي الخمر. بينما في اللغة والواقع الذي نعيشه، ثمة دلالات اخرى، ربما أدهى وأمر من الحالة التي يكون عليها السكران وحتى الثمِل ايضاً، لان في الحالة الاولى، تتعلق المعصية بشخص فاعلها وحسب، ولا تنسحب المعصية على الآخرين، إلا الاسقاطات الاخلاقية والمعنوية على افراد الأسرة، ولكن في الحالة الجديدة التي يعيشها الوضع السياسي في العراق، وتحديداً منظومة الحكم، فان الحالة تبدو انفجارية بافرازاتها المقززة والخطيرة في آن.

فبالرغم من التراكمات والاخفاقات وحتى الهزائم، لا نجد ثمة رفّة لجفن أحد من الساسة – إلا من رحم ربك، واضافة الى أنهار من الدم التي سالت في بغداد وسائر المحافظات بسبب استفحال الجماعات الارهابية وانعدام الامن، باتت أصوات ذوي الضحايا والشهداء تعلو لتصك أسماع الناس وحتى العالم، دون أن تجد لها أثراً في وجوه هؤلاء الساسة، او تحرك لاتخاذ قرار واجراء خاص يحد من هذه الويلات التي يعيشها العراقيون. كما لو أنهم يعدون الأمر طبيعياً، وأنه "ثمن الاطاحة بصدام"، وهو التحليل الذي أميل اليه بشدّة منذ سقوط صدام، على أن الامر لم يكن سهلاً وبالمجان...!

هذه القناعة الداخلية التي اصطنعوها لانفسهم، جعلتهم في {سكرتهم يعمهون}، وقد وصف القرآن الكريم في سورة الحجر، قوم لوط بهذه الحالة في قصة شذوذهم الجنسي، وقد جاء في بعض التفاسير، "إن قوم لوط عُميت أبصارهم بسبب طغيان الشهوة الجنسية". ولذا لم يكونوا بالمرة في موقف التفهّم والتعقّل وإدراك عواقب الامور، وربما لا يرون الى أرنبة أنوفهم...!

لكن من أين جاءتنا – نحن- هذه الحالة الغريبة، التي ربما أجزم أنها منقطعة النظير في العالم، وبهذه الصورة والكيفية؟

ولانه "اذا عرف السبب بطل العجب" فمن الجدير تشخيص مصادر الخلل لمعالجة المشكلة ما أمكننا ذلك. فثمة اسباب عديدة نسلط الضوء على بعضها:

أولاً: الجهل

عندما يكون "العلم نور" فهذا مدعاة لليقظة والوعي، والتفكير الدائم بما يجري، ثم التطلع الى الافضل للحاضر والمستقبل. بينما الجهل (الظلام)، فانه يدفع بصاحبه نحو المجهول، وعندما يكون في موقع السلطة وبيده مصائر البلاد والعباد، فان هذا المجهول يتحول الى كوارث في مجالات عديدة بالحياة.

والجهل الذي يصاب به "سُكرى السلطة" ليس من النوع العادي، الذي يمكن معالجته بالانفتاح على أبواب العلم والمعرفة، فيكون الانسان عالماً، بمستويات مختلفة، او حتى يكون "متعلماً"، ويخرج نهائياً من دائرة الجهل. بيد أن النوع الخاص في أروقة السلطة من الصعب معالجته، لأن الموجودين يعدون انفسهم "الأعلم" و"الأفهم"، وان الآخرين بحاجة اليهم دائماً، حتى العلماء، سوى الدينيين او الدنيويين!.

ثانياً: المال

"سكرة المال" يؤكد وجودها في النفس الانسانية، أرباب العلم والفكر، على أن الامر يتعلق بغريزة التملّك والاستئثار. وفي العراق فان هذه الغريزة شهدت انفجاراً هائلاً بسبب الفارق الكبير بين الثروات والخيرات التي يمتلكها العراق (الارض)، وبين الوضع الاجتماعي الذي ينحدر منه معظم الساسة العراقيون. فالعراق من نوادر البلدان في العالم يتم استحصال مبلغ قدره حوالي ألف مليار دولار خلال عشر سنوات.

ومن على الشاشة الصغيرة اعترف السياسي "مثال اللآلوسي" أنه شخصياً، مع ساسة آخرين، لم يكونوا ليحلموا يوماً أن يروا أمامهم الملايين من الدولارات، فقد كانت أعمالهم التجارية البسيطة تقتصر على مئات الآلاف وحسب.

ثالثاً: ثقة الجماهير

وهذه هي الطامة الكبرى...!، فالشرعية للحكم والتصرف كيفما يشاؤون دون رادع، من أكثر الاسباب التي تجعل الانسان يفقد صوابه، لاسيما في بلد عاش الاستبداد ردحاً طويلاً من الزمن، لأن الساسة في العراق، ربما لم يكن يحلموا بتوافد الناس زرافات وبدوافع ذاتية وعن طيب خاطر، ويدلون باصواتهم في صناديق الاقتراع، ثم تتحول هذه الآراء الى مراقي نحو المناصب الحكومية.

وهنا المفارقة المؤلمة؛ بين شعب بنى كل طموحاته للخروج من نفق الديكتاتورية الفردية والقمع والإذلال من خلال التجربة الديمقراطية، وبين حالة السُكر التي انتابت أولئك الذين تناولوا السلطة بملعقة ذهبية – إن صح التعبير- بخلاف التجارب التي مرت على العراق. لذا يمكن ان ينصرف الذهن في هكذا حالة الى وجود نوع من الخيانة بحق ابناء الشعب العراقي، وما قدمه من تضحيات جسام وما تكبده من خسائر فادحة طيلة السنوات الماضية، وهو اليوم يتخبط بين مشاعر اليأس من الحاضر والمستقبل، وبين مشاعر الفشل والخسارة من هذه التجربة.

ومن اجل ايقاف النزيف وانقاذ ما يمكن انقاذه، بالامكان اتخاذ الاجراءات التي تعيد الامور الى نصابها وإعطاء كل سياسي مكانته التي يستحقها بعيداً عن الميول العاطفية والفئوية التي تكلف كثيراً، وإلا فان حالة "السكر" التي نعاني منها، وإعادة اصحابها الى الصحو واليقظة، بحاجة الى ما هزّة عنيفة تشترك فيها جماهير الشعب بجميع فئاتهم دون استثناء، فكما أن الجميع هم الذين جاؤوا بهؤلاء الساسة الى السلطة، فان تقويمهم تصحيح مسارهم بحاجة الى الصيغة ذاتها.

اضف تعليق