كثيرون من العراقيين كانوا يأملون ان ينهار سد الموصل، لكن ليس بالصورة المأساوية التي ضخّمها الاعلام العراقي، وكان الدافع لهذا الامل السوداوي هو ان فيضان المياه سيجرف داعش من الموصل، ويجرف المنطقة الخضراء برمتها، ولا يستطيع أي سياسي اللجوء الى المطار والهروب خارج العراق.. خاب امل العراقيين، لان السد باق ولا امل في انهياره، وكانت الاخبار التي حذرت من انهياره يراد منها تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لجهات معينة. هذه الجهات لا احد يعرفها ولم يسمها، فالجميع في دائرة الاتهام.
قريبا من هذه الفوضى، امال سوداء، وصخب اعلامي مرتفع الوتيرة، تصريحات مثيرة وغير مسبوقة لمشعان الجبوري يقول فيها إن جميع الطبقة السياسية في العراق فاسدة ولكل منا دوره في هذا الفساد.. وعندما سُئل كيف ذلك؟ اجاب: نحن في البرلمان مثلاً عندما تكون هناك ملفات فساد يجب علينا فتحها يأتي صاحب الملف فيدفع رشوة مغرية فلا يتم المضي بفتح ملف فساده.
واكد قائلاً: كلنا نأخذ رشوة ولا يوجد من لا يأخذها مهما علا شأنه، ومن يقول عكس ذلك فهو كاذب.. ومن يكشف أي فساد فإنه سرعان ما يتم قتله. وقال: اقسم بالله العظيم لديّ قصص فساد لو عرف بها العراقيون لهاجموا المنطقة الخضراء ومن فيها واحرقوها لكنني لا استطيع كشفها لاني سأقتل.
وهاكم تصريح اخر، يجري نفس المجرى، لكنه هذه المرة ينحدر من جبال إقليم كردستان، أمين عام حركة التنمية والإصلاح الكردية محمد بازياني، يعتبر ان "حل الأزمة المالية القائمة في كردستان بيد الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني ولديهما أسهل من شرب فنجان قهوة"، اتهمت عضو اللجنة المالية النيابية ماجدة التميمي، النائب مسعود حيدر (عضو اللجنة المالية) بالتستر على ملف فساد بقيمة (15) مليون دولار امريكي.
لكن النائب يؤكد ان الاتهامات التي وجهتها له النائب عن كتلة الاحرار ماجدة التميمي باطلة ، فيما بين انه يحتفظ بحق الرد عليها، وقال: ان " الاتهامات التي وجهت لي باطلة وفيها تشهير وانا معروف بكشف الفساد من خلال لقاءاتي في وسائل الاعلام".
اذا كان المثل الأول حول سد الموصل يتعلق بامال واماني قد تهجس في الصدور، وتجد لها متنفسا عبر الكلمات، فان بقية الأمثلة هي عبارة عن كلمات تؤلف جملا عديدة ومتنوعة هي جزء من المشهد اللغوي السياسي في العراق، منذ ان اتسعت قاعدة التعبير بعد العام 2003 وهي تواصل اتساعها المتزايد.
واللغة فيما وصلت اليه من تعريفات اللسانيين هي نظام تعبير يستخدم رموزا، وهي في هذه الحالة كلمات، لتمثيل أشياء يمكن ان تتضمن أشياء مادية ومشاعر وأفكار. يقتضي ذلك ان اللغة أساسا سلبية، حيث ان دورها هو ان تعكس الواقع بأكبر قدر ممكن من الدقة، كما تعكس المرآة الصورة. غير ان اللغة قوة إيجابية وفاعلة أيضا، قادرة على اشعال الخيال واثارة المشاعر. ان الكلمات لا تعكس فقط الحقائق حولنا، انها تساعدنا أيضا على تشكيل ما نراه، وبناء موقفنا تجاهه. ان اللغة في الحقيقة، تساعد على خلق العالم باسره.
هذه المشكلة خطيرة بشكل خاص في السياسة، لان اللغة غالبا ما تستخدم ببراعة من قبل من لديهم دافع للتلاعب والارباك: السياسيون المحترفون. وبما ان اهتمام السياسيين الأول هو الدفاع السياسي، فانهم اقل اهتماما بدقة لغتهم عن اهتمامهم بقيمتها الدعائية. وبالتالي فان اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال، لكنها سلاح سياسي، اذ يتم صياغتها وشحذها لنقل القصد والمعنى السياسي.
واللغة تشبه النقد المالي، والكلمات عبارة عن عملات نقدية، فهي تُسَكُ كما تُسَكُّ العملات، وتظل متداولة مادامت سارية المفعول. فهي –اي الكلمات-عملة التفكير، ونحن نمتلك منها ارصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين فإننا لاندفع الا كلاما زائفا.
كثيرا ما نظر الى تشابه النقود واللغة، المعبر عنه بالترميز في اللغة ذاتها، باعتباره مجرد زخرفة اسلوبية. ففي بدايات القرن السابع عشر على سبيل المثال استعمله ستيفانو جواتسو في تعاليمه البلاغية، للاشارة الى اننا يجب ان نفصل في كلام عامة الناس بين الكلام القيم والمفيد والكلام التافه عديم القيمة: التعبيرات والكلمات الاخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا تخرج من فم المتكلم تماما مثلما تصدر من الخزانة كل انواع العملات. اللغة والاقتصاد / فلوريان كولماس / عالم المعرفة.
بهذا المعنى، لاتعد اللغة في المشهد السياسي وعبر كلمات السياسيين في وارد الاتهام او الدفاع، الا سلاحا من الأسلحة التي يستخدمها هؤلاء السياسيين امام الاخرين، وبالخصوص امام وسائل الاعلام التي تساعد على تداول مثل تلك الكلمات وتلك اللغة ونشرها ..
فالظهور الإعلامي مدفوع من خلال (كلام زائف) لامعنى ولا قيمة له.. وهو وحسب الأمثلة التي ذكرنا، وما تستبطنه من مضمر في الخطاب وسيلة لابتزاز الخصوم، عبر مسؤولية زائفة غير حقيقية لاسماع الطرف الذي يراد ابتزازه من خلال التلميح بصفته او موقعه، دون تسميته، فالاتهام بهذه الحالة يطال الجميع، وعلى حد تعبير المثل الشعبي (اللي بعبه صخل يمعمع).
اضف تعليق