q

 

لا مصيبة كالجهل في عراقنا العظيم.. يضاف اليها مصيبة اخرى هي النسيان، او التناسي بعد التغاضي، اول علامة من علامات هذا الجهل المستشري، هو الحديث من قبل الجميع بشتى المواضيع، لا فرق بين سياسة او اقتصاد او ثقافة او اجتماع، وغيرها من مواضيع نتائجها هي محور اهتمامات الناس، وياليتهم يقفون عند ذكر تلك النتائج، وان كانت كثيرا ما تخطيء اتجاهها في التحليل ومعرفة الأسباب التي أدت اليها، ولسان الواحد منهم "انا أتكلم.. اذا انا موجود".

وفر سقوط النظام السابق الفرصة لظهور مجموعة كبيرة جدا ممن يطلق عليهم تسميات "صحفي – اعلامي" استفادوا من انتشار الصحف والمجلات ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة بعد ذلك العام، حتى أصبحت وانت تسير في أي مكان، تتعثر بصحفي او اعلامي لكثرتهم الكاثرة في كل مكان.

وفرت منصات التواصل الاجتماعي، نافذة أخرى يطل من خلالها هؤلاء "الاعلاميون – الصحفيون" في استعارة لتجارب الدول التي تزدهر فيها صحافة المواطن، والتي تكون عادة هي الرقيب على الحكومات في بلدانها.

وتلك الصحافة تحقق نجاحات كبيرة، لاعتمادها في عملها على "المعلومة" التي تكون الحكومة ملزمة بتوفيرها لها، يساندها في ذلك سلطة قضائية تجبر الحكومة على الكشف عن الكثير من المعلومات.

بغياب المعلومة، وغياب السلطة القضائية الفاعلة والمستقلة، لا يكون عمل صحافة المواطن لدينا متوفرا على شروطه المطلوبة، لذلك يلجا الكثيرون الى الاشاعة والكذب والتدليس والتضليل، وينتشر ذلك بسرعة في أوساط العراقيين ويتناقلون ما تم تداوله، فالجميع يريد الكلام "انا أتكلم.. اذا انا موجود".

الفيس بوك العراقي، وبعد سنوات من انتشاره في العراق، اصبح هو المرآة التي تكشف عن الكثير من التوجهات، جلها لا تعتمد على المعلومة الدقيقة، بل على ما يتم تناقله ومشاركته بين مرتادي هذا الموقع.

اكثر مكان يمكن ان يكون تعبيرا دقيقا عن المثل القائل "اختلط الحابل بالنابل" هو صفحات الفيس بوك، او"السوشيال ميديا" بنسختها العراقية.

او ربما المثل القائل "شعيط ومعيط وجرار الخيط" ويروى (شعيط ومعيط وشداد الحبل بالخيط) وأصول هذا المثل:( زعيط ومعيط ونطاط الحيط)، وكان شائعاً بين عامة مصر في المئة الثامنة للهجرة. كنوا عن التافهين بـ شعيط و معيط وجرار الخيط وشداد الحبل بالخيط

ويضرب: لاجتماع تافهين على أمر (من باب الاستخفاف والسخرية).

كل مايرد على صفحات الفيس بوك يندرج ضمن حرية التعبير تحت مظلة الديمقراطية. هكذا أراد له صاحبه ومؤسسه مارك زوكربيرغ.

لكن حرية التعبير في مجتمعات كانت مقموعة لعقود طويلة، مع ديمقراطية لا نعرف منها غير صناديق الاقتراع "وهي ليست نزيهة" مع العمود الثالث وهو الجهل، لا تمنحك غير خلطة عجيبة غريبة.

هذه التي لانعرف عنها الشيء الكثير، رصدها الدكتور محمد القريشي في احد منشوراته على الفيس بوك، يقول عن ذلك: (خلال احدى اجتماعات اللجان الفرعية للاتحاد الأوربي عام ٢٠٠٦ حول العراق اثارت انتباهي مداخلة لخبير أوروبي قال فيها (ان الدول او النخب او الجماعات التي تكثر من استخدام مفردة الديموقراطية هي غالبا ما تكون أحوج الجهات اليها او أكثرها عداءا لها ، فالديموقراطية نمط حياة لا تتطلب الحديث عنها لمن يعيشها كما لا يتحدث الأحياء عن الهواء الذي يستنشقونه في كل لحظة !).

ويرى القريشي وهو يعلق على الكثير من المفاهيم الجديدة التي يخبط بها العراقيون وخاصة سياسييهم خبط عشواء، ان تلك المفاهيم (وجدتها مظلومة ومقلوبة في العراق كظلم العراقيين وانقلاب أحوالهم من سيّء الى أسوأ، فالديموقراطية تعني سلب الحريات و(اسلمة السياسة) تعني إدارة الحياة بعيدا عن السماء و(أنسنة السياسة) تعني (توحش السياسة) وسحق الانسان).

كل إشاعة في الفيس العراقي تتحول بقدرة قادر الى حقيقة لا غبار عليها ولا يأتيها الباطل من خلفها او امامها، من فوقها او تحتها، حتى استحالت حياتنا الى جحيم لا يطاق، بسبب الكثير من نتائج وتأثيرات تلك الشائعات.

ولا يقتصر الامر على هذا الحد، يتجاوز ذلك الى النسيان والتناسي بعد التغاضي عن الكثير من الحقائق، ويتحول بعض الأشخاص الى ابطال الكل يدافع عنهم، لا لشيء الا مجرد موقف ليس مبدئيا كما تحكي عنه سيرة هؤلاء الأشخاص بل هو يدخل ضمن الانتهازية السياسية وركوب الموجة.

احدث ضجة على صفحات الفيس بوك العراقي، هي بسبب فصل احد الصحفيين من الفضائية العراقية، والتي عدها المعلقون عليها " انتهاك لحرية الرأي والتعبير" وهي في حقيقتها تندرج ضمن توصيف "الفصل التعسفي" طالما ان تلك الفضائية هي مملوكة للدولة، وهي التي تعين مدراءها وهيئة امنائها "لا يعتد بالحديث عن استقلاليتها عن الحكومة" وبالتالي فان الصحفي العامل فيها، يجب ان يعبر عن التوجهات والسياسات الحكومية، وينظر الى الاحداث بنظرتها، لا ان يكون صوته خارجا عن شروط التعاقد معه التي ارتضاها وهو يعمل في مثل هذه الفضائية.

نعم يكون ذلك انتهاكا لحرية التعبير في حالة كون الصحفي يعمل في مؤسسة مستقلة، يتقاضى راتبه منها، على ان يلتزم بالاشتراطات المهنية للعمل الصحفي التي توفرها له المعلومة الدقيقة التي يتحصل عليها تحت رعاية وحماية سلطة قضائية نزيهة، ماعدا ذلك فلا دخل لحرية التعبير في هذا المقام، وما حدث ينطبق عليه وصف الفصل التعسفي، اذا اكتملت اركانه، ويكون التقاضي فيه ضمن القضايا التي تنظرها محكمة العمل وليس ضمن القضايا التي تنظرها محكمة النشر.

اضف تعليق