رغم دخوله عامه الثاني، ما تزال قوات الحشد الشعبي تستمد قوتها المادية والمعنوية من مصادرها الذاتية. فهي حلّت محل قوات الجيش العراقي في مواجهة تحديات "داعش"، حتى أوصلت العراق الى مرحلة الهجوم بعد الدفاع، وتحرير مناطق واسعة مما احتلها هذا التنظيم التكفيري، إلا انه بعد لم يعترف به قانونياً ضمن المؤسسة العسكرية العراقية، الامر الذي اضطره لتغطية احتياجاته من مصادر اخرى، من جماهير الشعب والمؤسسات الدينية وغيرها. وهي تدافع عن أرض الوطن، وعن كل المكتسبات والمقدسات، وعن الأمن والاستقرار الذي ينعمّ به المجتمع ومعها مؤسسات الدولة ومعها الطبقة السياسية الحاكمة التي كانت على وشك الانهيار على وقع أقدام رجال "داعش" في صيف عام 2014، بيد أن الدعم المعنوي اكتسبته من المرجعية الدينية على خلفية فتوى "الجهاد الكفائي" وجعلت الموت عند الشباب اليافع المتطلع الى المستقبل، كأنه "أحلى من العسل"، فكانت قوافل المتطوعين من الشباب وايضاً الكهول، تترى على جبهات القتال.
مع كل ذلك تفاجئنا ظواهر مريبة وغير طبيعية في العراق في ظل الظروف العصيبة التي نعيشها، بحيث بدأنا نشهد سلسلة من الضغوط والاستفزازات يتعرض لها هذا الحشد الجماهيري:
أولاً: الضغوط المالية؛ فقد أحجم المسؤولون في الدولة، وتحديداً في مجلس الوزراء والبرلمان عن تخصيص ميزانية لهذا التشكيل العسكري الجديد، وبدلاً من تضافر الجهود لحل مشكلة رواتب ومخصصات المتطوعين وتغطية سائر الاحتياجات، انزلقت هذه القضية في متاهة المزايدات السياسية بين المكونات السياسية، ليكون الحشد الشعبي الضحية الجديدة للمحاصصة السياسية المقيتة في العراق.
ثانياً: الضغوط النفسية، وبدأت مع تحقيق الانتصار الباهر في عموم محافظة صلاح الدين، وتحرير معظم المدن، ومنها مدينة تكريت، التي طالما عدّها تنظيم "داعش" من قلاعها الحصينة. وبدأت الهمسات يتحول الى صوت مسموع بعدم السماح للحشد الشعبي بالمشاركة في تحرير مدينة الرمادي ومناطق في محافظة الانبار!
هذه اللهجة غير الودّية، وصلت الى الحشد الشعبي، بعد أن أثبت للسكان السنّة في المناطق المحررة في صلاح الدين، وغيرها، كما اثبت للعالم، بأنه يضحي بخيرة الشباب الشيعي من اجل دحر الزمر الارهابية التي لم تترك جريمة مروعة وفعلة منكرة إلا وارتكبوها بحق المدنيين في تلك المناطق.
ثالثاً وليس أخيراً: الاستفزاز السياسي الاخير الذي لم يأت فقط من داخل العراق، إنما عاضده هذه خطاب طائفي مسموم من الخارج، تمثل في التصريحات الصحفية للسفير السعودي في بغداد (ثامر السبهان) الذي وصف الحشد الشعبي بأنه "غير مرغوب به في المناطق السنّية..."!
وبغض النظر عن اللغط الذي أثير حول هذه التصريحات بين المحاولات المستميتة للخارجية العراقية باستحصال نوع من التراجع والتصحيح من السعودية لتطييب خواطر العراقيين، وبين صدور تصريحات سعودية بعدم شعور الرياض بأن شيئاً سيئاً حصل. يبقى السؤال يبحث عن الارضية التي مهّدت الطريق لأن يصل شاب في رتبة ضابط مخابرات في السعودية لأن يتطاول على قامة الحشد الشعبي وهو مشغول بدك أوكار "داعش" صنيعة هذه المخابرات...؟
المشكلة بكل بساطة، تكمن في أن الطبقة السياسية الحاكمة – بشكل عام- أثبتت عجزها في أن تكون بحجم التضحيات الجسام والمعنويات العالية والاستثنائية التي يمتلكها رجال الحشد الشعبي. حتى الاعلام العراقي – للأسف- لم يكن بالمستوى الذي يبين للعراقيين وللعالم، الصورة الحقيقية والكاملة لهذه القوة التي فاجأت العالم بظهورها. نعم؛ هناك تغطيات اعلامية للانتصارات في الميدان، في أحسن الاحوال، بيد أن لهذه القوة عوامل نمو وبقاء ضاربة بجذورها في المجتمع والتاريخ.
ولعل بعض الساسة في العراق، يتصورون أن اسمائهم و مناصبهم، اكثر اهمية من جموع المتطوعين الذي يحملهم الحماس والتفاعل مع فتوى المرجعية الدينية، بينما هم يتعاملون مع السياسة كعلم و افكار وتخطيط و...! وإلا ما الذي يفسر عملية التطبيع السياسي مع السعودية في هذا الوقت بالذات، في وقت تشهد "الدولة السعودية" المفلسة سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، أخطر مراحل حياتها؟
والمفارقة هنا عجيبة للغاية؛ قوات الحشد الشعبي تحقق الانتصارات ضد تنظيم "داعش" وتفرض نفسها شيئاً فشيئاً على الواقع السياسي في العراق والمنطقة، فيما تتسافل سمعة السعودية اقليمياً ودولياً بعد تضخم ملف الجرائم المريعة في لبنان وسوريا واليمن، وقبلها في العراق. مع ذلك؛ يأتي القرار بتسوية الخلافات بين البلدين وتجاوز ملفات الارهابيين السعوديين المشاركين في عمليات انتحارية ودموية ضد الشعب العراقي، وصولاً الى فتح سفارة سعودية في بغداد لتحصل الرياض على متسع من عنق الزجاجة.
إن واقع الحشد الشعبي ليس فقط الميدان، وخلال المعارك، إنما هنالك منطقة خلفية غير مرئية الى حدٍ ما، أشبه ما تكون بقراءة ما بين السطور، وهذا ما يحتاجه السياسي العراقي لاتقانه ليتفهّم حقيقة الدوافع التي تقف وراء تطوع هذا الشاب الصغير بعمر الورد، وذاك الشيخ الكبير، وذاك المعيل لعائلته، ثم تكون عودة البعض على شكل جثامين ترفع على رؤوس الاصابع وتهيب بها الجماهير.
بين فترة واخرى نشهد مبادرات رائعة من مختلف شرائح المجتمع العراقي وهم يعبرون باشكال مختلفة عن تضامنهم مع هذه التضحيات، من خلال التبرعات والمواقف الداعمة معنوياً، كان آخرها ما قام به مدرس مادة الفيزياء في احدى مدارس الاعدادية بالنجف الاشرف، عندما صدّر ورقة الامتحان للكورس الاول، بعبارة: "للحشد الشعبي الدور الاساس في أن نمتحن بأمان".
هذه البادرة البسيطة وغيرها من مختلف شرائح المجتمع، من شأنها ان تكون درساً لساسة العراق في أن يبلغوا المستوى الذي يدافعوا عن هذا المكسب الجماهيري العظيم، قبل أن تطاله المزيد من الطعنات والضغوطات.
اضف تعليق