الدماء المسفوحة في حادث اغتيال او انفجار أو اي شكل من اشكال العنف الدموي، تكون في معظم الاحيان، من اسباب اندلاع الحروب والصراعات في العالم، ما عدا الدماء التي تسفك من الشيعة عبر التاريخ، سواءً ما حصل خلال الانتفاضات ضد الحكام الطغاة، او بسبب السياسات القمعية، فهي لم تنتج حروباً أهلية او صراعات دموية يذهب ضحيتها الابرياء من النساء والاطفال، أو تكلف الدولة والمجتمع خسائر فادحة في الارواح والممتلكات، إنما تنتج الإصلاح والوعي والبناء. هذه المسيرة متواصلة، وآخر محطة لها؛ حادثة استشهاد الشيخ نمر النمر على يد السلطات السعودية بتهم باطلة بعد ثلاث سنوات من الاعتقال، فقد كانت شجاعته وقوة منطقه وخطابه الحضاري، سبباً لاكتساب قضيته بعداً عالمياً، حيث شهدت مدن عديدة في العالم وقفات احتجاج على قرار الاعدام بتهم باطلة. فيما وجدته عواصم معنية، فرصة للتصعيد الاعلامي ثم السياسي وربما الأمني بدعوى التغيير المنشود في السعودية على خلفية العلاقة المتأزمة اساساً بين شيعة المنطقة الشرقية وبين السلطات الحاكمة الرياض منذ تأسيس "الدولة السعودية".
وجاء هذا التطور الجديد ليعطي المساعي المحمومة لإثارة الأزمة الطائفية في السعودية زخماً جديداً، والحديث بلغة أوضح في الاوساط الاعلامية والسياسية، عن التمييز والحرمان والاضطهاد، وربط المظالم الاجتماعية بوجود الشيعة على بحيرة كبيرة من النفط، في اشارة الى أن الدولة السعودية تعتمد في قدراتها الاقتصادية والعسكرية على النفط المخزون في المناطق الشيعية وهي على الاغلب في محافظتي القطيف والاحساء، والإيحاء الى أن من حق الشيعة الرد بقوة على مجمل الانتهاكات التي تمارس ضدهم، بل والاستفادة من هشاشة البنية السياسية الحاكمة في الوقت الحاضر، نظراً للصراع المحتدم على السلطة والتداعيات السياسية على الصعيد الاقليمي، مما يهيئ الارضية لانتهاز الفرصة للتصعيد وممارسة الضغوط للحصول على ما يريدون. وما الحملة الاعلامية البريطانية تحديداً وغير المسبوقة على شخصيات سعودية، إلا دليل بسيط على هذه المساعي، حيث توحي الصحافة البريطانية الى أن "الأمراء" الموجودين غير جديرين بعد اليوم بإدارة البلاد، وعليهم أن يلحقوا بمن سبقهم مثل القذافي وبن علي ومبارك، ومن قبلهم صدام.
جاء في تقرير لوكالة رويترز للانباء، نشرته قبل أيام: "أن الباحثين في جامعة كولومبيا الاميركية أعدوا مجموعة من الخرائط التي توضح الانقسامات الثقافية والدينية والقبلية واللغوية في مختلف أنحاء الخليج...". وحول السعودية تقول: "ومما يزيد من هذا المزيج الباعث على زعزعة الاستقرار، أن المناطق التي تعد موطناً لكثير من الطوائف الشيعية هي نفسها المناطق التي توجد فيها اغلب حقول النفط والغاز...". كما نقلت الوكالة خبراً إضرام النار في حافلة تابعة لشركة ارامكو في القطيف يوم الثلاثاء الماضي، ضوء الاحتجاجات الاخيرة".
هذه المتابعة الاعلامية الخاصة وغيرها كثير من وسائل اعلامية بريطانية واميركية، لو طابقناها مع احداث مشابهة تماماً حصلت في العراق ولبنان والبحرين، لما وجدنا هذا التفاعل او ما يشبه التضامن مع قضية الشيعة في السعودية، فهي حتى خرجت في احيان كثيرة عن الموضوعية في تناولها الاحداث في العراق – مثلاً- لان هنالك "أقلية سنية غير مهمشة"، بينما انحازت بشكل غريب في البحرين الى "أقلية سنية حاكمة"!.
النفس الطائفي والسعي لإذكاء النزاعات والاحتراب بين ابناء الوطن الواحد والامة الواحدة، مما لا يخفى على الكثيرين في المنطقة، والسؤال اليوم يبحث عما تخبئه هذه المساعي لمستقبل السعودية بشكل عام ولشيعتها بشكل خاص، فثمة ملفين مهمين على طاولة المعنيين؛ الاول: يتعلق بالوضع الداخلي ومصير المجتمع السعودي في المرحلة القادمة. والثاني: يتعلق بالصيغة التي تكون عليها العلاقات مع العالم الخارجي، وتحديداً الولايات المتحدة صاحبة المصالح الاكبر في هذا البلد.
شعب ممزق وبلد ضعيف
لمن يطالع بعض التقارير الغربية لاسيما "رويترز" يجد حرصاً واضحاً على دفع الامور باتجاه التصعيد الامني، لاسيما وأن في شيعة السعودية، لديهم – كما يوحون- كل المبررات للتصعيد من خلال الاحتجاجات وحتى استخدام القوة للمطالبة بحقوقهم والدفاع عن كرامتهم ووجودهم الذي بات مهدداً ليس فقط من السلطات الحاكمة، وإنما من الجماعات التكفيرية مثل "داعش" المدان عالمياً، وهو الخطأ الذي تندفع اليه السلطات السعودية بدعوى الحفاظ على التأييد الداخلي، فقد جاء في تقرير لرويترز عن "محللين بان الحكومة السعودية تستخدم في بعض الاحيان موقفاً متشدداً تجاه الشيعة لحشد قاعدة تأييد لها بين الوهابيين في حين ان لمس أي ضعف قبول أي من مطالب الاقلية الشيعية يمكن ان تثير غضباً يسعى متشددون سنة لاستغلاله".
هذا النمط من التعاطي مع قضية الشيعة في السعودية يحفز المشاعر بالقدرة على تحقيق الكثير وسط تضامن عالمي مع مظلومية الشيخ النمر، وفي نفس الوقت يخلق تصوراً جديداً لدى البعض بعدم الحاجة الى مجتمع واحد في هذا البلد، مادامت الاكثرية السنية لها مصالحها وحياتها الخاصة، ولا علاقة لها بما يجري في المناطق الشيعية. ولكن المشكلة في طريقة تحقيق مصالح الاثنين في هذه البرهة الزمنية تحديداً...؟ فالتصعيد الامني او السياسي في هذا الاتجاه، سيدفع المجتمع السني لخيارين أحلاهما مر: القبول بالمطالب المشروعة للشيعة ورفع التمييز والمشاركة السياسية وغيرها، وهو ما يعرض الطبقة الحاكمة الى خطر التمدد الشيعي اجتماعياً وثقافياً ثم سياسياً، أو الرفض ودفع الشيعة نحو المطالبة بما يشبه الحكم الذاتي او ما أشبهه، وهو الخيار المتضمن لاحتمالات سقوط البلاد في اضطرابات داخلية لا تُحد، والخيارين يصبّان في هدف واحد وهو تقويض القدرات الاقتصادية للسعودية ودفعها نحو الاستنزاف بعد تعرض المجتمع والبلد بأكمله الى حالة من التمزق والتشرذم، وانتشار العنف والكراهية.
واشنطن ومستقبل الشيعة في السعودية
ارتكاب السلطات السعودية للخطأ باعدام الشهيد النمر وتجاهلها للنداءات الدولية بالتراجع عن حكم الاعدام، دفع المراقبين للتكهن بتحركات اميركية نحو شيعة السعودية لصياغة نوع من العلاقة بعيداً عن إطار الدولة نظراً للفوارق البعيدة بين متبنيات الشيعة وما عليه المذهب الوهابي، وهذا ما نلاحظه في آخر منشورات "ويكليكس" والتي زعم صاحب الموقع أن الشيخ الشهيد النمر، التقى بشخصية اميركية عام 2008 في القطيف، وجاء في الموقع "برقية من السفارة الاميركية الى واشنطن"، تتضمن ملاحظات عن رؤية الشيخ النمر الايجابية إزاء اميركا وسياساتها وأنها الطرف المفضل للتحاور معه والثقة به في المرحلة ا لقادمة، وتنقل البرقية تشاؤم الشيخ الشهيد من نوايا وسياسات الحكومة السعودية واصفاً إياها بانها "رجعية".
وبغض النظر عن مدى صحة أو سقم ما جاء في هذا المنشور الذي صدر بعد استشهاد الشهيد النمر، فان مجرد النشر يمثل رسالة اميركية على أن واشنطن ستكون لها نظرة اخرى للسعودية كبلد وشعب في المستقبل، والاهم من ذلك انها تبحث عن السياسي القادر على السباحة في كل المياه، وهو قطعاً ما يتعارض مع نهج الشهيد النمر ومن يسير على دربه، فقد أكد في اكثر من مناسبة على منهجه الرسالي القائم على القيم والمبادئ، ومنها السلم والتعايش. من هنا؛ من الجدير جداً مطالعة العريضة التي قدمها الشهيد النمر الى أمير المنطقة الشرقية عام 2007 وحملت اسم "عريضة العز والكرامة" وتضمنت رسالته ومطالبه واهدافه، وهي مطالب الشيعة في السعودية، وقد عدّها خبراء ومتابعون بانها وثيقة مهمة تثبت حقوق الشيعة بشكل موضوعي. فقد جاء في هذه العريضة: "اننا لا نطالب بشيء يسلب أمن البلاد والعباد، ويقوض اركان الدولة..."، و"أن كل المطالب التي نبتغيها هي التي تحقق الامن والاستقرار".
ان مطالبة الشيعة في السعودية بحقوقهم تتزامن مع تقاطع مصالح اقليمية ودولية في ضوء معطيات سياسية وتبلور محاور في الصراع على النفوذ والهيمنة في المنطقة، وفي هذا الوسط ذهبت بلاد عديدة ضحية لهذا الصراع كان المقدمة العراق. لذا فان استعادة الحقوق وكسب الامتيازات والعيش الكريم لن يكون ذو فائدة على قاعدة هشّة قابلة للتمزق والانهيار.
اضف تعليق