يستلزم من القائمين على إدارة الشأن العلمي في بلداننا توجيه المراكز البحثية والأكاديمية صوب التركيز على تعميق الدراسات التطبيقية في المجالات الرقمية التي تشمل نواحي الحياة كافة، والاستفادة من مكتسبات ثورة الذكاء الصناعي بحدودها القصوى على مستوى المواكبة، والاستثمار والشراكة، فضلا عن إيلاء التوعية الجماهيرية عناية خاصة للتعريف بأهمية الرقمنة...

يقول الفيلسوف (سبينوزا) نحن لا نولد مواطنين، ولكننا نصبح كذلك، وبما أن مفهوم المواطنة تطورا تطورا هائلا عما كان عليه في عهد الرومان، وصولا إلى عصر النهضة، والتنوير الذي شهد ولادة سبينوزا، وموته، وبما أن هذا المفهوم ما يزال آخذا في الاتساع دلاليا حتى وصلنا نتداول في وقتنا الحاضر مصطلح المواطن الرقمي، وقياسا على المقولة التي انطلقنا منها آنفا فإننا لا نولد مواطنين رقميين، ولكننا نصبح كذلك!

ومن المناسب هنا إيراد استدراك ثان فأن تُصبح مواطنا رقميا ليس هو نهاية المطاف، إذ عليك أن تقرر مصيرك بين أن تضل داخل دائرة الاستهلاك أم تخرج منها نحو معترك الإنتاج، وآفاقه. 

وقرارك في أن تكون منتجا رقميا ليس حلما بعيد المنال، بل هو في متناول اليد لاسيما للموهوبين من جيل الشباب ممن تحركهم دوافع الطموح، والتميّز، والابتكار. والأسماء الشابة التي بلغت مراتب متقدمة على الصعد التي عرضنا لها توا في المجال الرقمي أكثر من أن تُحصى، وتُعد لاسيما في دول العالم المتقدمة مثل أمريكا، والصين، وكندا، وروسيا، وكثير من دول أوربا، وآسيا، وغيرها. وقد استطاع بعض رواد الأعمال الرقمية من فئة الشباب أن يحققوا ثروات فلكية تجاوزت وارداتها المالية بعض أكبر شركات التكنلوجيا التقليدية، وبحسب الخبير في المجال الرقمي الدكتور الجزائري (أحمد أبو داود) فإن شركة النقل الرقمية UBER التي شارك في تأسيسها الشاب الكندي (غاريت كامب) عام 2009 تجاوزت أرباحها السنوية أرباح شركة BMW التي أُنشئت عام 1916 كما تجاوزت أرباح شركة FACE BOOK التي أنشأها الشاب الأمريكي (مارك روزنبرغ) عام 2004 الأرباح التي تحققها سنويا شركة WALT DIZNY وبدخل زاد على أكثر من خمسين مليار دولار...

ومع أن الحواجز التقليدية التي كانت تعيق حركة الشركات سابقا مثل (الجمارج، والحدود الدولية) وغيرها لم تعد قائمة هذا اليوم لكن من الحق هنا أن يُقال بأن الأهداف التي يحرزها الشباب في البلدان المتقدمة كأمريكا، وغيرها تستمد أصالتها، وقدرتها على البقاء، والصعود، والاستمرار في المقام الأول من البيئات العامة المرحبة للتفوق والإبداع، وهي من جهة أخرى بيئات تستند إلى أجندات سياسية واقتصادية تحرص على بقاء التنافس في ساحاتها الخاصة، فليس سهلا أن تكون منتجا منافسا ومخترقا لهذه الساحات سواء أكنت فردا أو منظمة، أو دولة، ومن المتوقع أن تُواجه الاختراقات من هذا النوع بحرب لا أخلاقية إذا تطلب الأمر؛ لأن أقوى قوى عالم هذا اليوم متجسدة بقوة السوق المرتبطة أساسا بتوسعة أنطقة الاستهلاك العالمي، هذه الأنطقة التي يأكل من جرفها بطبيعة الحال تمدد، وتنوع خطوط الانتاج، ولكن إيراد مثل هذه التصورات الواقعية لا يعني التوقف عن دعم عقلية الابتكار، والأحلام، والتفكير خارج الصندوق، وكذلك التفاعل العميق، والمستمر مع متطلبات العصر الرقمي، واستيعاب معادلاته ومستجداته، وما يحمله من محاذير نتيجة لعدم مواكبته أولا بأول، فما أكثر الشركات العريقة التي سقطت لعدم مواكبتها التحول الرقمي كما ينبغي، ولم تشفع لها عراقتها، وتاريخها الطويل في أن تظل على قيد الاستمرار. 

إن من جملة ما يدخل في وارد التثقيف نحو الإنتاج الرقمي هو إنشاء المنصات الرقمية التعليمية باللغة العربية، وتخصيص جزء كبير من برامجها للدورات الرقمية المجانية، فالملاحظ أن الغالبية العظمى من المنصات التعليمية المهمة في العالم يتطلب الدخول إليها دفع رسوم ليس في قدرة كثير من شبابنا، فضلا عن اتخاذها من اللغة الإنكليزية أداة وحيدة للتواصل، وبعضها لا يسمح بوجود خيارات الترجمة، والمعلوم أن إجادة الإنكليزية إجادة تامة لا تتوفر لدى قسم كبير من المواطنين (الرقميين). 

ومن هنا أيضا يستلزم من القائمين على إدارة الشأن العلمي في بلداننا توجيه المراكز البحثية والأكاديمية صوب التركيز على تعميق الدراسات التطبيقية في المجالات الرقمية التي تشمل نواحي الحياة كافة، والاستفادة من مكتسبات ثورة الذكاء الصناعي بحدودها القصوى على مستوى المواكبة، والاستثمار والشراكة، فضلا عن إيلاء التوعية الجماهيرية عناية خاصة للتعريف بأهمية الرقمنة من خلال وسائل الإعلام المختلفة، فشيوع العمل بالوسائل الرقمية يحمل في تضاعيفه كثيرا من الامتيازات التي تصب في صالح الفرد والمجتمع، وبالإضافة إلى ما يتفرد به السلوك الرقمي من سرعة في إنجاز الأعمال لاسيما ذات الطابع الرسمي قياسا بنظيره العادي ثمة فوائد أخرى تتصل بالحدّ من أوضار الفساد التي تتغول غالبا في العوالم (الورقية) وتخف حدتها في العوالم (الرقمية).

اضف تعليق