ليست المرة الأولى التي يتحول فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الى خشبة خلاص لشعوب المنطقة من نار الحرب الكارثية التي تدور رحاها بين ما يسمى بـ "تنظيم داعش"، وبين الجيوش المحلية ومعها الجيوش الغربية، بعد أن "بلغ السيل الزُبى" وسالت أودية من الدماء، وبات من الصعب إحصاء عدد ضحايا هذه الحرب، والخسائر الفادحة التي لحقت بأكثر من بلد في المنطقة، فقد شهدنا حالات مشابهة خلال السنوات الماضية التي تخللتها حروب كارثية وأزمات خانقة، أبرزها أزمة النظام الديكتاتوري والدموي في العراق في حقبة الثمانينات، عندما كان الناس في الداخل والخارج، يشكون وطأة الحديد والنار من ذلك النظام، دون ناصر او معين، حتى اتذكر أن العراقيين في المهجر كانوا ينظرون الى كل من يخرج من تحت جناح صدام، سواءً يكون طبيباً مقرباً او حزبياً او موقع آخر، ويتوجه الى خارج العراق، بأنه البرهان الكبير على حقانيتهم، ونوعاً من الاستنصار لهم. أو هنالك من يكتب مقالاً او كتاباً يتحدث فيه السياسات القمعية ويشير الى ضحاياه، فان ذلك يُعد بالنسبة اليهم الماء البارد الذي يُسكب على قلوبهم!.
وكلما تشتدّ أزمة او تتعرض الشعوب لضربات وتجاوزات، نراها تهرع فوراً الى من يستغل المشهد ويرتدي زي الرجل المميز والبطل المنقذ (سوبر مان). كما حصل في الآونة الاخيرة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، مع الفلسطينيين، عندما أعدّ سيناريو لمسرحية التصدّي للتجاوزات الاسرائيلية، بدأها من حالة المظلومية التي ابتدعها بعد حادثة الانزال الاسرائيلي على سفينة الاغاثة التركية في البحر المتوسط، ومقتل عدد من البحارة الاتراك، والموقف الاستعراضي الذي اتخذه ضد الرئيس الاسرائيلي، شمعون بيريز خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في "دافوس"، ثم اعقبتها مواقف تركية عديدة تبين التضامن مع القضية الفلسلطينية وعموم الشعوب العربية، حتى نضج الامر و تحول اردوغان الى رمز التصدّي والمقاومة الحقيقية الذي "يشرّف جميع الحكام العرب..."! كما جاء في ردود الفعل المتصاعدة من الفلسطينيين والعرب باشكال مختلفة.
ولكن؛ اين هم أولئك الذي ادّعوا المعارضة لصدام، وأنهم بصدد فضحه وتوجيه الادانة اليه؟ من هؤلاء الكاتب والصحفي المخضرم، حسن العلوي، يكتب في مقدمة كتابه "عمر وعلي"، بأنه تسرّع – ما مضمون الكلام- في إظهار مظلومية الشيعة لما لحقهم من الظلم والاضطهاد على يد صدام، في كتابه "الشيعة والدولة القومية في العراق"، لانه اتخذ موقفاً بدرجة (160) الى الجانب الآخر عندما تفاجأ بتطور تاريخي غير متوقع بصعود نجم الشيعة في العراق، وتوليهم الحكم. ثم أين أردوغان اليوم؟!.
هنالك اسباب عديدة وراء هذه الحالة النفسية العجيبة وبقائها، كما لو انها حالة طبيعية يستمرؤها الناس بين فترة وأخرى. نشير الى سببين من جملة اسباب؛ الاول: يعود الى ذات الافراد في المجتمع والامة، والثاني: يتعلق بالنخبة المثقفة.
السبب الأول: انعدام الثقة والشعور العميق بالضعة.
ربما يكون هذا من أهم وأبرز اهداف الطغاة والانظمة الديكتاتورية والقمعية، فهي تزيد من التنكيل وتوغل في الدماء بهدف إشاعة أكبر قدر ممكن من الرعب في النفوس، فالإنسان بطبيعته يخشى الموت والأذى على نفسه وأهله. وعندما تتكون هذه الحالة وتأخذ مكانها في النفس، لن يبقى هنالك مجالاً للتحرك او التفكير بشيء اسمه "تغيير" لان العجز هو المهيمن وحالة الضعة والشعور بالدونية تحول الى سمة يقبلها الانسان أمام طاغية مثل صدام، او أمام قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، أو امام ظاهرة مثل "الارهاب الطائفي". في حين لو القينا نظرة متفحصة على القدرات والامكانات الموجودة في جانبي الصراع، لوجدنا أن الشعب العراقي – مثلاً- أقدر من غيره في ساحة المواجهة، فهو صاحب الارض ويمتلك القدرات العلمية والبشرية، وهنالك النخبة من العلماء والمثقفين واصحاب العقول والتدبير، ربما بما تفتقر اليه شعوب كثيرة ومضطهدة في العالم. لكن المشكلة تكمن في الإرادة بالاستفادة من كل هذه الفرص العظيمة والهبات الإلهية الكبيرة، بينما نلاحظ شخص مثل صدام استفاد من بعض الفرص في حياته ليتحول من صعلوك وضيع ونكره في مجتمعه الصغير، الى قائد زجّ بالعراق، بما فيه من شعب وثروات وقدرات هائلة، الى أتون الحروب الكارثية.
السبب الثاني: فقدان الوعي.
فما الذي يجعل شخصاً او جماعة، تمثل خشبة الخلاص من الازمات، وتجسد الأمل نحو غد مشرق للناس، بينما الحقيقة؛ وجود المصالح الضيقة وراء الوعود المعسولة؟، إن الوعي، بكل اشكاله من شأنه ان يميط اللثام عن أي محاولة للخداع والتزييف وتقضي عليها في مكانها، فمن أين يأتي عامة الناس بالوعي السياسي والفكري، اذا كانت النخبة المثقفة والواعية بعيدة عنه، مشغولة بالدراسات والبحوث والتنظير والتفكير في إنشاء القواعد الحزبية بين شريحة خاصة في المجتمع؟.
يحدثني احد الاصدقاء، بغير قليل من الحسرة، عن مدى تأثره - سابقاً - بشخصية اردوغان في السنوات الماضية، عندما هتف في مهرجان خطابي وهو يحيي مراسيم عاشوراء في تركيا: "إن كربلاء ليست النهاية، إنما البداية..."! فالبداية لمن...؟ هل للإمام الحسين، عليه السلام، والقيم والمبادئ التي ضحى من اجلها؟ أم لأردوغان وحزبه وتطلعاته السياسية وأحلامه في المنطقة؟.
ان الوعي واليقظة التي تُعد من سمات الامم والشعوب الصاعدة، هو الذي يحد من حالة الانهزامية والشعور باليأس القاتل والتشرذم في الآفاق بحثاً، ليس عن الطعام والسكن والعمل، وإنما عن الأمل المفقود في الحياة الكريمة. والأخطر من هذا؛ يفتح المجال أمام القوى الاخرى في العالم للاستفادة من هذه الثغرة وتكريس وجودها في بلادنا، ثم تحقيق الكثير من المصالح الاقتصادية والسياسية، وربما حتى الثقافية والحضارية ايضاً.
اضف تعليق