علينا أن نشكر السياسي البريطاني الراحل، ونستون تشرشل، عندما قال: "الديمقراطية أحسن الخيارات السيئة"، لأنه يعلم في قرارة نفسه عدم وجود فكرة او نظرية للسياسة والحكم في العالم الحديث، توفر السعادة والأمان والكرامة للإنسان، فاذا اعطته شيئاً أخذت منه أشياء، أهمها المصداقية في المشاركة السياسية، التي طالما تدعيها الاحزاب السياسية في بلادنا الاسلامية، الحديثة العهد على هذه التجربة.
فمن المفترض ان يكون المسؤول في الدولة الديمقراطية، ممثلاً عن الشعب، لانه – بطريقة أو باخرى- جلس خلف مكتبه الفاره، من خلال مشاركة الجماهير في التجربة الديمقراطية، وهذا ما نلاحظه بنجاح بنسبة عالية في بعض بلاد الغرب، فالمسؤول؛ صغيراً او كبيراً يحمل معه الخشية من الفضيحة، إن ارتكب عملاً مشيناً، بينما المسؤول في بلادنا "الديمقراطية" يحمل معه الاعتداد بالنفس على أنه الافضل والأنزه، وأحياناً يتعدى الأمر الى السعي لإلقاء الخشية والرهبة من عنده في قلوب الناس!.
وفي مثل هكذا بلاد نلاحظ ظاهرة، ربما لم يألفها العالم الديمقراطي، وهي اختزال الديمقراطية برمتها في تيار أو حزب او حتى شخص واحد...!، فان تعرض هذا الشخص الى تصدّعات، فان هذا ينعكس – من المفترض – فوراً على التجربة الديمقراطية برمتها.
وهذا ما تعاني منه الديمقراطية في العراق، فالبعض من المسؤولين – ولا نقول جميعهم- لا يوقف جهده وقدراته لخدمة المجتمع الذي أوصله الى السلطة، إنما يسعى للعكس تماماً؛ بأن يسخّر كل الامكانات والثروات لمصالحه الخاصة، وهذا ما أثار حفيظة الشعب العراقي خلال الفترة الماضية، وبينما هم في حالة من الغليان والغضب والاستنكار على الفساد المالي المريع الذي استنزف قدرات البلاد ويكاد يقضي عليه تماماً، نسمع بنوع جديد من الفساد، عندما يرهن بعض النواب بين نجاحهم في استجواب وزير في الحكومة، وبين التجربة الديمقراطية برمتها، فإن حالفهم النجاح وتمكنوا من إدانة الوزير على فشله وفساده، فالديمقراطية بخير، وإن فشلوا، فانها عبارة عن جثة هامدة تنتظر من يدفنها!.
بغض النظر عن حيثيات وملابسات الاستجواب لهذا المسؤول او ذاك، فان القضية ترتبط بممارسة ديمقراطية واضحة المعالم داخل البرلمان، كما هو معمول في جميع بلاد العالم، إما أن يقنع المسؤول أغلبية النواب، ويخرج سالماً من البرلمان، او يفشل في مسعاه فيكون مداناً وعليه تحمل تبعات أعماله. وهنالك بحث طويل حول دور الاقلية في البلاد الديمقراطية، وانها لن تكون في موقف الضعف والهزيمة امام الاغلبية في البرلمان، او امام الاكثرية الحاكمة، لوجود التداول السلمي للسلطة، ولسنا بوارد الحديث عن هذه القضية، بيد أن الانزعاج من عدم توجيه الادانة للمسؤول المقصّر – وإن كان كذلك- يصل الى حد التشنيع بالبرلمان والديمقراطية برمتها فهذا يرسم علامة سؤال كبيرة عن الطريقة التي قرأ بها البعض مفهوم الديمقراطية، ومن الجهة المستفيدة؟.
وقد حذر الباحثون منذ سنوات عديدة من مخاطر انزلاق الديمقراطية نحو الاستبداد من هذا المنعطف الخطير، عندما يفشل النائب في السيطرة على توازنه، ويفقد صوابه في لحظة توتر او انفعال، ربما تتدخل فيها "الأنا" او المصالح الخاصة.
وقد شهدنا هذه الظاهرة في البلاد التي تدّعي "الثورية" وأنها تقدمت بشعوبها من خلال الثورة على الديكتاتورية، فعندما مثُل مسؤول أمام القاضي في المحكمة لاختلاسات ارتكبها، توجه بالكلام الى القاضي بكل صراحة، وقال: "أحذرك من المساس بالمسؤولين... لان ذلك يلحق الضرر بالثورة..."! علماً ان هذه الثورة انتصرت وأثمرت عن نظام ديمقراطي بعد مشوار طويل من التضحيات الجسام وآلاف الشهداء.
نعم؛ ربما يدّعي البعض أنه الوصي على تلكم التضحيات، او انه "الممثل الشرعي والوحيد" لأولئك المضحون ولتلك الدماء، لكن؛ من الذي يعطي هذا التمثيل والتخويل، فاذا كان الشعب المضحي بدماء أبنائه، فمن المفترض ان يكون قادراً في الوقت نفسه على انتزاع هذا التمثيل او التوكيل وإعطائه شخصاً آخر، أما اذا كان من عند نفسه، فـ "على الديمقراطية السلام"، فهي لا تموت بين التجاذبات السياسية والتنافس المحموم على الامتيازات والنفوذ والهيمنة، إنما هي ميتة منذ اللحظة التي تلتقي مع الفكر الإقصائي ومع تقديس الايديولوجيا.
وربما لا نكون بحاجة كثيراً الى التنظير في أمر الاستبداد والديكتاتورية، لأن الايام هي التي تثبت يوماً بعد آخر فشل البعض في فرض متبنياتهم الفكرية والثقافية على ارادة الشعب ومصيره، وما دامت هذه النفسية موجودة وهي التي ترسم خارطة طريق لهذا السياسي وذاك، من المستبعد ان تنجح الديمقراطية في تحقيق الهدف المنشود حتى وإن أعلن الساسة بأجمعهم أنهم متفقون على تنفيذ قرار معين، او تطبيق قانون ما، او – مثلاً- انهم اتفقوا على إنهاء مشكلة الكهرباء نهائياً...! وهكذا؛ لان هذا القرار او الاجراء سيكون متجه بالدرجة الاولى صوب المصالح الحزبية او الشخصية قبل ان يصل الى مصلحة الناس والبلد، او في طريق تقدمه وتطوره.
اضف تعليق