للمرة الاولى تتعرض المصالح الحزبية والفئوية الى اهتزاز عنيف بفضل صرخات الاحتجاج المتواصل منذ اكثر من شهر، لجماهير الشعب في عديد المدن العراقية، وهي تطالب بحرمان شريحة واسعة من السياسيين ومن يلوذ بهم، من امتيازات اعتادوا عليها طيلة السنوات الماضية، مما دفعها لأن تتخذ الاجراءات الوقائية في مقابل الاجراءات الحاسمة والحازمة التي اتخذتها الجماهير مسنودة بالقيادة المرجعية.
ازدواجية المطلب والمهمة الصعبة
الامر الجديد في الحراك السياسي بالعراق، هو تحمّل رئيس الوزراء حيدر العبادي، مسؤولية تلبية مطالب الجماهير الغاضبة في الشوارع بتحسين الخدمات وحل أزمات البلاد الاقتصادية والسياسية، الى جانب شن حملة لمكافحة الفساد المستفحل في معظم مرافق الدولة بشكل لايطاق، فمن الدوائر الحكومية، الى الدوائر الامنية والعسكرية، الى المحاكم والقضاء. باتت أذرع الفساد تشد الخناق على الناس.
وصعوبة المهمة، وربما استحالتها، تنشأ من المنطق السياسي المتبع في "العراق الديمقارطي" إزاء أي حركة مطلبية من الجماهير، حيث كانت التهمة الجاهزة توجه الى أي تظاهرة احتجاج تطلب الإذن بالتنظيم والخروج في الشارع، بأنها "تظاهرة مسيسة"، الهدف منها التسقيط وليس تلبية مطالب المتظاهرين، حتى وإن كان المتظاهرين يرفعون مطالبات بتحسين الكهرباء وتوفير فرص العمل وسكن.
وهذه المرة لم توجه التهمة الى الجماهير، لان يبدو ان المرحلة غيرت وجه المعادلة، فالتسييس لا يأتي من المتظاهرين، وإنما من المسؤولين في الدولة نفسه الذين يحملون لواء التغيير والإصلاح، متمثلاً بالدكتور العبادي، وايضاً حاكم الزاملي رئيس لجنة التحقيق في احتلال الموصل، لانه أدرج اسم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في قائمة المدانين في هذه القضية. علماً انها ليست المرة الاولى التي تثير أصابع الاتهام بالقصور، نوري المالكي، فطالما هدد بالكشف عن حالات الفساد اذا ما تعرض للضغوط من قبل مجلس النواب، وأصرّ على استجوابه على خلفية أزمات أمنية وسياسية واقتصادية، وذلك طيلة السنوات الثمان من توليه رئاسة الحكومة.
وربما تكون الاقدار هي التي وضعت الدكتور العبادي في هذا الموقف، بأن يدمج بين مطالب الجماهير بتحسين الخدمات وايضاً بإجراء ترشيق في المناصب العليا والتي يراها غير ضرورية، ووضع حد لاستنزاف الاموال عبر عناوين مختلفة، لان جاء التكليف والتخويل للعبادي بالاستفادة من صلاحياته الكاملة لتغيير الوضع المتردي، وهو ما لم يفعله المالكي من قبل، لان خياره (المالكي) كان في السابق، الإبقاء على الوضع القائم على انه نتاج توازانات سياسية وتراضي في تقسيم الغنائم متفق عليه من جميع الاطراف. بينما العبادي تجاوز هذه القاعدة، او بالاحرى، رفض الارتكاز عليها، لايمانه – ربما- بان المرحلة الراهنة تتطلب اسلوباً جديداً في ادارة البلاد.
مع ذلك؛ تبقى مسألة محورية في الخطوات التي يتخذها العبادي حالياً، وهي؛ إن ثمة عدم تجانس بين هذه الخطوات، رغم شجاعتها وقوتها وسرعتها. فمطاب تحسين الخدمات وفي مقدمتها الكهرباء، لا علاقة له بالمناصب في الدولة، مثل نواب مجالس المحافظات او نواب البرلمان او الوزراء او غيرهم، كما ان هؤلاء ليس لهم بالضرورة، العلاقة المباشرة مع حالة الفساد، لان الفساد، قبل ان يكون حالة تتمثل بهذا المسؤول او ذاك، فهي بالحقيقة تمثل ثقافة لها جذور اجتماعية ونفسية، فهل هذا الترشيق الذي حققه العبادي حالياً سيعني التقليل من حالات الفساد في العراق؟.
الاصلاحات تفجّر الفساد
لمن يسمع ردود فعل المسؤولين على اجراءات الدكتور العبادي في أمر الترشيق الوزراي وإلغاء بعض المناصب وغيرها، يستفزه العجب، بكيفية سكوتهم عن فيروسات الفساد التي يتحدثون عنها او يهددون بالكشف عنها، وهي موجودة في جسد الحكومة والنظام السياسي التي يعيشون فيه، مثال ذلك، وجود حوالي 175 درجة وظيفية في وزارة الخارجية قد ارتكب اصحابها جريمة تزوير لشهادات جامعية لغرض تعيينهم موظفين في الوزارة او في سفارات منتشرة في العالم،ولم يتحدث عنهم وزير الخارجية ابراهيم الجعفري، إلا عندما هبت عاصفة الغضب الجماهيري وتحرك عجلة العبادي للتنظيف...!
مع ذلك، فان هكذا تصريحات مطلوبة وتعد اسهاماً في عملية استئصال الفساد. بيد ان المشكلة تكمن في اتخاذ ملفات الفساد، سلاحاً يشهر به البعض بوجه البعض الآخر، كما لو ان الجميع يعلمون جيداً أن الجميع متورطون بحالات فساد، بشكل او بآخر! وهذا الوضع المتشنج لن يكون في صالح الجماهير التي تبغي من وراء تظاهراتها، الإصلاح واجتثاث الفساد وتحويل البلد للمسير نحو التطور والتقدم، لا ان يكونوا متفرجين على صراعات وتراشق بالاتهامات والفضائح وهم بعد لم يتحقق لهم أي مطلب.
وعليه؛ ليس أمام الساسة في العراق، من خيار في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ التجربة الديمقراطية، إلا ان يقفوا صفاً واحداً الى جانب الشعب العراقي في مطالبته تقويم الاعوجاج الحاصل في معظم مفاصل الدولة. فاذا غضّوا الطرف عن مصالحهم وامتيازاتهم بهدوء ، وسمحوا للعبادي ان يواصل مسيرته الاصلاحية؛ سواءً على صعيد تصحيح العلاقة مع الشعب، او على صعيد تصحيح العلاقة بين المسؤول وبين مهمته ومنصبه، فان الفساد مهما كان، لن يتحول الى قنبلة تهدد الامن والاستقرار في العراق، لان هنالك مشكلة نفسية قديمة في أدمغة الكثير من القادة والمسؤولين، ليس في العراق، وإنما كل دولة ذات خلفية ثورية ومعارضاتية، تجعل السياسي يختزل مصير البلد وكيانه واستقرار شعبه، بشخصه وبمصيره، فان تعرض للخطر، فان البلاد والعباد سيكونوا معرضين للخطر ايضاً!.
اضف تعليق