ما يحدث في العراق، في ساحاته وعلى امتداد محافظات الوسط والجنوب، هو اقرب الى الاحتجاج منه الى الانتفاضة او الثورة.
فالاحتجاج هو (الاعتراض والاستنكار)، ولم يقترب حتى الان الى الانتفاضة، حتى لو اقتصرنا على احد معانيها وهو (نفض) مثل (نفض الثوب) يعني (حركه ليزول عنه الغبار أو نحوه)، وحتى الان لم تتم إزالة هذا الغبار من على وجه العراق او وجوه العراقيين، مجرد وعود إصلاحات لم تأخذ طريقها الى التنفيذ، لارتباط ذلك بتشريعات وقوانين وسلطات غير السلطة التي وعدت.
وهو احتجاج لا يمكن ان يصل الى مستوى الثورة، لموانع وكوابح عديدة، من قبل المحتجين أنفسهم ومن قبل من قامت الاحتجاجات ضده، اشبه بحبل مشدود بين طرفين يتم ارخاؤه من طرف مجذوب الى طرف ساحب.
والكِنَايَةُ: تعبير أُريد به غيرُ معناه الذي وُضِع له من جواز إرادة المعنى الأصليّ؛ لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، وذلك لأغراض مختلفة منها الإيهام على السامعين أو نحو ذلك، وقد يكون عن صفة أو موصوف أو نسبة صفة لموصوف، مثل: أمَّة الدولار: كناية عن أمريكا، الناطقون بالضاد : كناية عن العرب، أو المتكلِّمين بالعربيّة، نظافة اليد: كناية عن الأمانة، الذكاءُ ملء عين هذا الرجل: كناية عن ذكاء الرجل.
لا يمكننا تحديد اول من شرع للفساد في العهد الجديد بعد العام 2003، قد يكون جي غارنر الذي سبق بريمر، او يكون بريمر هو الأول في ذلك، او ربما هو اول امين لبغداد، واعتقد ان اسمه كان محمد الزيدي، او هو ربما من حصل على اول عقد من العقود التي قدمتها سلطة الحاكم المدني للعراق وهو بريمر هنا، او ربما أسماء عديدة، منهم من ذهب مع الريح، ريح التقلبات السياسية، او من انحنى للريح كي تمر فوقه، ثم رفع راسه وهو أحد اركان واعمدة العملية السياسية في العراق.
لا يهمنا من يكون الأول، اذ ان رائحة الفساد المستشري في العراق قد زكمت الانوف طيلة هذه السنوات، واصبح الفساد (اشهر من كفر ابليس) وهي كناية عن الامر القبيح الذي افتضح واشتهر.
وهو الفساد الذي نخر ميزانيات العراق الانفجارية، او نخر أجساد العراقيين بواسطة العمليات الانتحارية، ولسان حالهم يقول (احترك الأخضر بسعر اليابس) كناية عن الشر والاذى، يصيب البريء عقابا لما جناه جاره او قريبه الشرير، وهم هنا الطبقة السياسية التي اصيب العراقيون منها بخيبة امل في وقت كانوا يؤملون منها خيرا كثيرا، وتنطبق عليها الكناية التي تقول (ادعي بها لعدوك).
قال الشاعر:
وجرم جره سفهاء قوم
فحلّ بغير جارمه العقاب
منذ انطلاق حركة الاحتجاجات وكانت في مدينة البصرة، ثم تبعتها الاحتجاجات في بغداد، كان الوضع مصداقا للكناية البغدادية (ابريسم على عوسج) وهي كناية عن اشتباك الأمور واختلاطها، بحيث يعسر تنظيمها.
تنوعت ردود الأفعال اتجاه تلك الاحتجاجات في بدايتها، فمنهم من وصفهم بالإعلاميين المأجورين، ومنهم من هدد بوضع من وجه اليه الاتهامات رأسه تحت حذائه، وكان لسان حال السامعين لتلك التصريحات هو الكناية البغدادية (ابن البارحة) وهي كناية عن محدث النعمة.
والبغداديون يروون بيتين من الشعر لا يعرفون قائلهما، ينشدوهما كلما انزعجوا من تصرفات محدث النعمة، وهما:
مستحدث النعمة لا يرتجى
احشاؤه يملؤها الفقر
جنّ له الدهر فنال الغنى
يا ويحه لو عقل الدهر
ولابن الرومي:
رأيت الدهر يرفع كل وغد
ويخفض كل ذي رتب شريفة
كمثل البحر يرسب فيه حي
ولا ينفك تطفو فيه جيفة
وكا الميزان يخفض كل واف
ويرفع كل ذي زنة خفيفة
بعد ان اتضح للطبقة السياسية حجم الاحتجاجات، بادرت تلك الطبقة المتهمة بالفساد والخراب الى تغيير موقفها منها تناغما مع موقف المرجعية الدينية ودعوتها للضرب بيد من حديد للفساد والفاسدين، وكانت تصريحاتهم تصب في تعضيد وتأييد تلك الاحتجاجات، حتى استغرب العراقيون من ذلك، واخذوا يتساءلون اذا كان الحال هكذا فخروجنا محتجين ضد من؟.
موقف الطبقة السياسية الحاكمة المؤيد لهذه الاحتجاجات تنطبق عليه الكناية البغدادية (ابليس ما يخرّب بيته) وهي كناية عن نجاة الشرير من واقعة نزلت به. وقد يقال ابليس ما يخرب عشه.
وكناية أخرى تنطبق على تلك الطبقة وهي (أبو وجهين) وهي كناية عمن يظهر في المواجهة خلاف ما في قلبه، والكناية قديمة، قال الشاعر:
قل للذي لست أدرى من تلونه
اناصح ام على غش يداجيني
إني لأكثر مما سمتني عجبا
يد تشجّ وأخرى منك تأسوني
تغتابني عند اقوام وتمدحني
في اخرين وكل عنك يأتيني
هذان شيئان شتى بون بينهما
فاكفف لسانك عن شتمي وتزييني.
او هو مصداق للكناية التي تقول (أبو الويو) وهي كناية عن المحتال الذي يتظاهر بالضعف والمسكنة، من اجل نوال بغيته، شبه بابن اوى الذي يتلصص، من اجل صيد الدجاج. وقريب منها (احيل من الواوي) وهي كناية عن المحتال الذي يبدع في حيلته، بحيث تنطلي على اكثر الناس. ولكنها حتى الان لم تنطل عليهم لهذا تراهم يستمرون في الاحتجاج.
وأيضا فان العراقيين لم يعودوا في وارد تصديق ما يصرح به هؤلاء الساسة، لانهم يعرفون ان (الاذرة ما تصير كعك) وهي كناية عن الشرير لا يستطيع ان يغير طبعه الى الخير.
الاحتجاجات اخذت تتسع ويزداد عدد المشاركين فيها، وقد راهن الكثير من السياسيين انها ستنتهي بمجرد اول وعد بالإصلاح، الا ان المحتجين يطالبون بالتنفيذ وبإصلاحات جديدة، والطبقة السياسية مستنفرة، وكل فاسد وسارق من تلك الطبقة يقول لصاحبه (اجمع افكارك قزموز) وهي كناية تنبيه وتحذير للغافل بان اخطارا تتهدده وتوشك ان تحل بساحته.
ذكرت في بداية السطور ان ما يحدث في العراق وساحاته المختلفة هو نوع من الاحتجاج، لا يرقى الى الانتفاضة او الثورة، لكن وتناغما مع عبارة المرجعية الدينية في احدى كلماتها (للصبر حدود) فان الموقف قد يستلهم في تطوره الكناية التي تقول (اخر الدواء الكي) وهي كناية قديمة، ماتزال مستعملة في بغداد، كناية عن الحل العنيف الحاسم لقضية استعصى حلها باللين والتفاهم.
اضف تعليق