في كل مكان، يغلب على التظاهرات الاحتجاجية الجماهيرية في الشوارع، الطابع العاطفي والتحرك بوحي من ردود أفعال سواءً على خلفية أعمال قمع ترتكبها الحكومة، أو سياسات فاشلة تلحق الضرر بقطاعات واسعة من المجتمع، وما يؤجج نار الاحتجاج الجماهيري، اسلوب المواجهة من عناصر الشرطة او ما يُسمى في بلادنا "قوات مكافحة الشغب"، فيجد الشاب او أكبر منه، بانه تحول الى "ثائر" لابد له من التصدّي بقوة للعصي والهراوات والغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه الساخنة وغيرها من اساليب القمع. ثم يأتي دور الاعلام الموجّه والمعارض، ليشحن الاجواء ويحوّل هذه التظاهرات – مع قلّة عدد المتظاهرين- الى "ثورة" او "انتفاضة". وفي هذا الوسط تضيع المطالب الحقيقية التي من أجلها يرفع المتظاهرون اصواتهم بالهتافات في الشارع، كما يحصل – تقريباً- الشيء نفسه في العراق.
واذا اردنا تلخيص الموقف المحتقن في العراق، في الوقت الحاضر، فانه عبارة عن لوحة مركبة من شعب طوى مرحلة الديكتاتورية والنظام الفردي والقمعي بفعل سيناريو اميركي – دولي – اقليمي، للإطاحة بنظام صدام، وايضاً من مجموعة من الاحزاب السياسية ذات التوجهات الدينية والعلمانية، فكان الاتفاق غير المكتوب، بناءً على سجل حافل، بما تدعيه هذه الاحزاب من نضال طويل وتضحيات جسام لتحقيق طموحات هذا الشعب، بتشكيل نظام حكم قائم على "الديمقراطية"، والتي تحولت فيما بعد الى "ديمقراطية توافقية"! وهذه الصيغة تحديداً، هي التي أثبتت فشلها الذريع في إحداث التغيير المرجو والمأمول منذ عقود، في أن يتحول الشعب العراقي، الى شعب آمن يعيش بحبوحة العيش الكريم بفضل ثرواته العظيمة، ووجود قدرات بشرية وطبيعية.
تحقيق الاهداف والاختبار الصعب
لم يقدم أي مفكر او باحث او عالم رؤية ايجابية عن مستقبل الثورات الجماهيرية، رغم أن هؤلاء جميعاً كانت لهم – وما يزال- اليد الطولى في التحفيز والتحشيد والتعبئة. فقد قال الثائر الفرنسي المعروف جورج كاك دانتون، أمام المقصلة التي أعدها له رفاقه الثوريون: "الثورة تأكل أبنائها"، كما ينقل القول: بأن "الثورة يخطط لها المفكرون ويقودها الابطال ويجني ثمارها الانتهازيون". بمعنى أن ليس من السهل بالمرة تحقيق الاهداف الحقيقية التي تدفع الناس الى الشوارع والمخاطرة بأرواحها مع وجود سلطة قمعية غاشمة، ونخبة سياسية وطبقة مثقفة، وشريحة واسعة ممن يصفهم أمير المؤمنين، عليه السلام بـ"الهمج الرعاع". وهذه التجربة، خبرتها شعوب في العالم منذ الثورة الفرنسية ثم الثورة البلشفية في روسيا، وحتى "الثورة الاسلامية" في ايران، فقد كانت هنالك شعارات، ولكن اعقبتها مآلات بعيدة عنها. ونفس الشيء تكرر مثل "نسيم الربيع" على بلاد عربية منذ عام 2011، فتحولت المطالب، من محاربة الفساد والديكتاتورية والتمييز والظلم، الى محاربة من اجل اهداف سياسية أعدتها دوائر مخابراتية وأطراف اقليمية ودولية لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية كبرى. والنتيجة كما يلاحظ القارئ والمتابع. بيد أن التجربة التي تخوضها الجماهير العراقية حالياً، تختلف تماماً عن التجارب المشار اليها، لأن – ببساطة- النظام السياسي القائم متمخّض من أصوات معظم هؤلاء المتظاهرين، وإذن؛ فالمسوؤلين الذين توجه اليهم تهم الفساد والتلاعب بالمال العام وغيرها، يعدون انفسهم منتخبون من قبل الشعب، بل ويفتخرون انهم سابقون البلاد العربية في التجربة الديمقراطية، كما قالها أحدهم: بأن "العراق ليس بحاجة الى ربيع عربي، فهو قد تجاوز هذه المرحلة...."!.
وإذن؛ نحن أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما: إما ان تكون "الديمقراطية التوافقية" وما تقوم عليه حالياً من مؤسسات دستورية ونظام حاكم، قابلة للتصحيح والإصلاح، بإلغاء المحاصصة السياسية – مثلاً- وإجراء ترشيق واسع في المناصب والموظفين والامتيازات والمخصصات، ووقف نهائي لنزيف أموال الشعب، وإما ان يختار الشعب العراقي تجربة أخرى للحكم، ربما تكون "الرئاسية" من خلال اجراء استفتاء عام. وأغلب الظن؛ أن زوال كل هذه المواصفات (الفيروسات) من جسم هذه الديمقراطية، يعني الحكم عليها بالموت والفناء، وإلغاء وجودها بالكامل.
وهذا ما يجب ان تفهمه النخبة المثقفة، وايضاً الشريحة الواعية التي تسعى للتغيير والاصلاح من خلال التظاهرات الاحتجاجية، فالأزمة المتفاقمة منذ سنوات، لا تتعلق بشخص، سواءً كان وزيراً او مديراً او حتى رئيس الوزراء، إنما بالنظام العام.
حتى لا نخلق أزمة داخل أزمة
بناءً على ما تقدم، ليس من الصعب تحقيق المطالب الجماهيرية في العراق اذا توفرت الشروط الصحيحة للاحتجاج وتعبّد الطريق أمام التغيير الحقيقي، مع التأكيد على ثمن هذا التغيير الذي يجب ان يسهم فيه الشعب العراقي ايضاً، الى جانب المسؤول الخاسر لامتيازاته، فالمسألة تشبه الى حد بعيد، العملية الجراحية لاستئصال ورم خبيث، فلابد من خسارة بعض الدماء وتحمل الآلام.
ومن جملة الشروط والخطوات في هذا الطريق اثنان؛ الاول: وحدة القيادة، والثاني: وحدة الهدف ووضوحه.
ففي وضعنا الحالي في العراق، لسنا بحاجة الى احزاب سياسية او قائد ثوري ملهم، لتعبئة الجماهير في كل مكان، إنما الى نفس مؤسسات المجتمع المدني التي تتحرك وتنشط في الوسط الاجتماعي والسياسي، والتي تستقي افكارها وتوجهاتها من مصدر واحد يعبر عن الهوية الغالبة للشعب العراقي. واعتقد أن من الجدير بالجماهير العراقية، إسداء الشكر للمرجعية الدينية التي أوصت رئيس الوزراء الدكتور العبادي، باتخاذ الاجراءات الحاسمة، وشجعته على كل قراراته الاخيرة، كما نلاحظ الشكر والتقدير لشخص الدكتور العبادي على اجراءاته الشجاعة بترشيق الوزارات وعزل النواب وفتح ملفات الفساد وغير ذلك. وهذا من شأنه ان يحدد اهداف المتظاهرين للمعنيين بالامر في الدولة، وفي نفس الوقت الوقت يسد الطريق أمام المتصيدين بالماء العكر ومن الذين يشعرون بالخسارة من وجود التجربة الديمقراطية برمتها، او من الذين يريدون تحقيق اهداف فئوية خاصة من خلال ركوب الموجة الجماهيرية. وبالمحصلة نتخلص من أزمة ربما تتولد داخل أزمة نعيشها بالاساس، عندما يكتنف الغموض اهداف التظاهر المطلبي، وايضاً القيادة الموجّهة، ونتفرغ للأزمة الواحدة المتلخصة في ترشيد الحكم وتقويم النظام السياسي أملاً في إبقاء التجربة الديمقراطية في العراق ناجحة ونموذجية.
اضف تعليق