لا حديث في منطقتنا يعلو فوق خطاب التغيير، ففي اغلب البلدان التي تتماثل معنا في ازماتها، أو تلك التي تعيش ازمات من نوع اخر، يسود الجدل في الشارع السياسي بحثا عن انموذج للحل، حل للانسداد ودعوات للتغيير، فقد بلغت الانظمة مرحلة الجمود وعدم القدرة على...
لا حديث في منطقتنا يعلو فوق خطاب التغيير، ففي اغلب البلدان التي تتماثل معنا في ازماتها، أو تلك التي تعيش ازمات من نوع اخر، يسود الجدل في الشارع السياسي بحثا عن انموذج للحل، حل للانسداد ودعوات للتغيير، فقد بلغت الانظمة مرحلة الجمود وعدم القدرة على اجتراح حلول ترضي الشارع وتعبر الازمات بكفاءة وسلام.
تصميم مشاريع الحلول وتنفيذ التغيير الذي تنتظره الجماهير، عملية عسيرة محفوفة بالمخاطر، فالتغيير السلمي الهاديء يمكن تمريره في بلدان الديمقراطيات الراسخة والعريقة، ببرامج حزبية تتبناها نخب ذكية واحزاب حيوية فاعلة تعرف كيف تتماهى مع مطالب الجمهور وتتبنى رغباته، ثم تخوض حوارا مفتوحا، عبر فضاءات تواصلية، تصنع رأيا عاما وتدفع الى حسم الخيارات بين المتبنيات السياسية المختلفة والمتعددة عبر صندوق الاقتراع.
الانتخابات هي المحطة الاخيرة التي تحسم اتجاهات الرأي العام، بعد جدل سياسي وانتخابي وخطابات ساخنة مليئة بتصورات ورؤى القوى المتنافسة على السلطة.
في الدول التي تفتقد الى التقاليد الديمقراطية الراسخة والاحزاب الحيوية ذات الصفة التمثيلية الواسعة، تستعيض القوى السياسية عن البرامج المصممة بعقلانية ورؤية مدروسة، بخطابات الاستثارة والتعبئة والتهييج وتحريك الدوافع العاطفية والضغط على المكبوتات الداخلية لتفجير عنف رمزي -قد يتحول الى عنف مادي في اية لحظة -وتحويل التنافس السياسي الى صراعات هوية واختلافات عقائد سياسية، وليس استراتيجيات ادارة وحكم رشيد وتخطيط علمي وبرامج تنمية اقتصادية وسياسية وثقافية.
اين العلة في الموضوع؟ لاشك ان الاصل في المشكلة هو في طبيعة الانظمة السياسية القائمة وفي نوع الثقافة السياسية السائدة وفي هيمنة وعي زائف على الاعم الاغلب من المشتغلين بالحقل السياسي، ومناصريهم في منصات الاعلام والتواصل الاجتماعي، علاوة على ثقافة الجمهور المستقطب اساسا بين تيارات طائفية وقومية وايديولوجية تماهي بين الدين والهوية والذات الجمعية والمصير المشترك.
الرغبة في التغيير الذي تتطلع اليه الجماهير للخلاص من البؤس الاجتماعي والاقتصادي وترشيد الحياة السياسية، تصادره القوى المسيطرة بطرق مختلفة، تنجح فيها باستنفاذ طاقة التغيير في معارك الشعارات الكبرى، نجاحها هذا يعكس خللا في وعي المواطن -الفرد والوعي الجماعي للقوى صاحبة المصلحة في التغيير.
وبدلا ان تكون الازمات الاقتصادية والمعيشية والخدمية هي المحرك للتغيير، تنصاع الجماهير بلا دراية لخطابات الهوية، بل تجر اليها جرا، لان هناك من يخطط بذكاء لذلك، مستخدما اساليب القهر العاطفي والدعائي.
التغيير لا يحصل في بلداننا سلميا لان هناك اعاقة سلطوية لمساراته (السلطة بالمعنى الواسع الذي يشرحه ميشيل فوكو )، فكل من لديه مصلحة في دوام السلطات القائمة يصبح عدوا للتغيير ،وكل من تمكن من السلطة لا يريد خسارتها بأي ثمن، ولذلك تنشط قوى السلطة لتعيد انتاج نفسها، مجتهدة في تسويق الوهم للجمهور، مفتعلة قضايا للصراع والصدام لاستجرار عواطف الناس وتخويفهم من عواقب التغيير المجهول، بسبب هذه المنهجية لا تعود انتخاباتنا جاذبة للمشاركة الواسعة، ولا مثيرة للتنافس الجدي على مشاريع بناء وتحول بنيوي، بل لن تكون في احسن حالاتها غير استبدال متطرف باقل تطرفا، وشعبوي يحسن التلاعب بمشاعر الناس ويخاطب ماضيهم وذاكرتهم المشحونة المدماة، بأخر اقل شعبوية.
التغيير الحقيقي يكون مثمرا وبناء، حينما تعرف قوى التغيير كيف تبني وعيها ووعي جمهورها بفضح خطاب الذاكرة والهوية بوعي مستنير وليس بشعارات ساذجة وانفعالات غاضبة.
اضف تعليق