"... يا علي...! للظالم ثلاث علامات: يقهر من دونه بالغلبة، ومن فوقه بالمعصية، ويظاهر الظلمة".
هكذا يوصي رسول الله، صلى الله عليه وآله، وصيه أمير المؤمنين، عليه السلام ضمن مجموعة كبيرة من الوصايا. وهي بالحقيقة وصايا ذات دلالات عميقة في السلوك الاجتماعي، فالانسان العاصي والمتمرد على القوانين، في قول او فعل، يكون مداناً أمام المحاكم في كل مكان، كما ان المخالف للأعراف والتقاليد الاجتماعية، يتعرض للانتقاد والتقريع، بين اصدقائه وأهله، وربما احياناً الى التبرؤ منه من افعاله، اذا كانت القضية تمسّ الذوق العام، او تتعلق بالاخلاق والعفّة... وغير ذلك، بيد أن كل ذلك لا يوصم صاحبه بالظلم، لان - ببساطة – مفهوم الظلم في مجتمعاتنا، ينحصر في دائرة القوة والقهر والاستضعاف، فمن يمارس هذه القوة ضد الآخرين يكون ظالماً.
نعم؛ إن الحاكم، في منصب الرئيس او الوزير او المدير او ضابط الشرطة او غيرهم من مسؤولي الدولة، ربما يتلبّس بالظلم والجور، بيد أن هذا يحصل في بعض الحالات في المجتمع، بينما الملاحظ في أي مجتمع أنه يعجّ بالمظالم والتجاوزات بين افراده على طول الخط، بسبب المعصية او التمرد على القانون العام والاصول المتبعة والقواعد العامة التي يتبناها عامة الناس، مثال ذلك؛ نظام المرور او النظام العائلي أو نظام التعامل التجاري في السوق وغيرها. فاذا كان الحاكم او صاحب المنصب الكبير في الدولة، يظلم هذا وذاك بقرار منه او قضية معينة، فان الظلم في الوسط الاجتماعي يلحق الضرر بشريحة واسعة من المجتمع، كما يلحق الضرر بنفس صاحب الظلم من النوع الثاني!
حقوق الآخرين وهاجس الظلم
إن مفردات التعامل في حياتنا اليومية معرضة – على الاغلب- الى نوع من التجاوز والانتهاك، بشكل مقصود او غيره، بفعل التنافس او السباق المحموم على الكسب والتفوق في مجالات عدّة، لنأتي بمثال بسيط؛ "الطابور" الذي يتشكل في أي مكان لإنجاز عمل معين او الحصول على شيء معين في دائرة رسمية او للصعود الى حافلة نقل، او للدخول على طبيب أو التزود بالوقود وغيرها كثير. فان المكان الذي يحتله الانسان، تمثل بالحقيقة، حقاً خاصّاً به، وأي مشاطرة او محاولة لاجتيازه تمثل نوعاً من الانتهاك لهذا الحق ثم ظلم صاحب هذا الحق. والقضية في الوقت الحاضر تبدو من البساطة والاستسهلال، أن البعض – ولا نقول الغالبية- يمارس هذا العمل، بشكل طبيعي كأن شيئاً لم يكن، والسبب انه يرى الى جانبه اشخاصاً يمارسون نفس الفعل ويسكتون عليه.
لنتصور واقعا من هذا النوع؛ أيّ نوع من الظلم سينشره في المجتمع؟ وأيّ حالة من التمزق وعدم الثقة سيخلقها بين الناس؟
من هنا؛ يتضح أن التجاوز على حقوق الآخرين بأي شكل من الاشكال، ينبغي ان يواجه بوصمة الظلم، رغم قساوتها وشدتها، لان ما يخلفه التجاوز من تداعيات نفسية وآثار اجتماعية، اكثر خطورة وشدّة. لعل هذا يكون رادعاً او سدّاً أمام السلوكيات الخاطئة التي ربما تصدر من هذا وذاك، فيكون التجاوز في الطابور او في طريق السيارات او غيرها، بمنزلة اللغم الخطير الذي يجب ان يتجنبه العاقل والحصيف.
{وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
القرآن الكريم، يمثل قمة الروعة في التعبير عن كيفية تحوّل الانسان الى ظالم لنفسه، قبل ان يظلمه أحد. وقد جاءت لفظة ظلم الانسان لنفسه في عشرات الآيات بصيغ عديدة، وقد نبه البارئ -عزّوجل- الى هذه الحقيقة الثابتة؛ أن الانسان العاصي والمتمرد على الاحكام الالهية وعلى القيم والمبادئ، فانه يظلم نفسه بالدرجة الاولى لأن {الله غنيٌ عن العالمين}، ولا يضره – تعالى- إيمان او كفر الانسان، إنما الضرر يلحق بالانسان نفسه عندما يخسر حياته التي وهبها الله له ليتاجر بها ويحولها الى مكاسب دنيوية يفيد بها نفسه ومن حوله، ثم تكون حسنات ومفازات ليوم الآخرة.
لذا نجد القرآن الكريم يعبر عمن يتجه الى التحريف والتضليل وقلب الحقائق سعياً لتحقيق مكاسب معينة، بأنه "الأظلم" أي الأكثر ظلماً من غيره الظالمين...! {...فمن أظلم ممن افترى الى الله كذباً ليُضلّ الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
ومن أبرز الامثلة الواقعية على ظلم الانسان نفسه بخرقه وعصيانه القواعد العامة في الحياة. ما نلاحظه في بعض الاشخاص الذين يفتقرون الى دماثة الخلق وحسن السلوك، فهنالك حديث شريف يكشف حقيقة انسانية مذهلة عن هكذا انسان بأن "سيئ الخلق يعذب نفسه". فهو قبل ان يُسيئ الى الآخرين، فانه بالحقيقة يسيء الى نفسه، عندما يكون منبوذاً بين افراد المجتمع وبين المقربين منه وحتى بين افراد عائلته، لانهم لا يتحملون شخصاً بينهم يتعمّد خرق القواعد العامة التي يعتمد عليها الجميع، ويعدونها جزءاً من المنظومة الاخلاقية التي تحقق الاستقرار لحياتهم.
اضف تعليق