في الحديث عن الاضطهاد الفكري من لدن حكومات وانظمة حكم ديكتاتورية تحرم الافراد من حرية التعبير والرأي والمعتقد، تصدر الادانات ضد هذه الانظمة، وترفع الشعارات للنضال لاستعادة هذا الحق المشروع، وفي مرحلة لاحقة، تكون الانظمة الحديثة العهد بالديمقراطية مطالبة بضمان هذا الحق، وأن تحافظ على أعلى درجات اللاعنف في التعامل مع حرية الفكر...
في الحديث عن الاضطهاد الفكري من لدن حكومات وانظمة حكم ديكتاتورية تحرم الافراد من حرية التعبير والرأي والمعتقد، تصدر الادانات ضد هذه الانظمة، وترفع الشعارات للنضال لاستعادة هذا الحق المشروع، وفي مرحلة لاحقة، تكون الانظمة الحديثة العهد بالديمقراطية مطالبة بضمان هذا الحق، وأن تحافظ على أعلى درجات اللاعنف في التعامل مع حرية الفكر والعقيدة للافراد والجماعات.
هذا الوجه الاول من القضية المرتبط بالعوامل الخارحية، أما الوجه الآخر المعبّر عن مديات الاستيعاب والفهم والقناعة بهذه القيمة الانسانية والحضارية العظيمة، فان المطالبين بالحريات إنما ينبعثون من صميم الجماهير، وينتمون الى مناشئ مختلفة لها قراءاتها الخاصة للحرية، فإما يخرج الانسان (المواطن) مكبلاً بسلسلة من الاحكام والتصورات، او مكللاً بواحة واسعة من البصيرة والتفكير الحر تمكنه من رسم لوحات كبيرة ذات دلالات بعيدة عن الحرية ودورها في التنمية والتطوير الانساني، والنهوض الاقتصادي.
اللاعنف الفكري والبيت السعيد
يتذرع البعض بالتقاليد والسُنن الاجتماعية لإحكام الطوق على ذهنية الابناء من الخروج الى عالم المعلومات والافكار والثقافات، ففي سالف الزمان كان بعض الآباء –وليس كلهم- ينظرون بعين الريبة الى الكتب والمطبوعات التي يحملها ابنهم الشاب الى البيت، وينزوي بهدوء منكباً عليها يطالعها بنهم، يجد فيها ما لم يجده في محيطه الاجتماعي والثقافي، وهذا من شأنه تهديد جدار الثقافة المحافظة على الثوابت والمسلمّات من قبل افكار جديدة تدعو الى التحديث في الحياة من خلال الثورة على الواقع الفاسد مهما كانت التكاليف والتضحيات.
في بعض محطات المشوار، قد تتعرض الأسرة الى هزّة عنيفة بخروج الشاب عن اطار الطاعة الأبوية، والتفرّد بقناعات تنطوي على مخاطر التغيير –بالنسبة للآباء- والتي تصطدم بشكل مؤكد بالنظام السياسي القائم، هذا التمرّد "الثوري" اضطرت اليه بعض الحركات الاسلامية لمواجهة التحدي السياسي والثقافي القادم من خارج الحدود، و رغم حقانية الموقف، فان هذا التمرّد لم يكن القاعدة الأساس في التعامل مع المجتمع و واقعه الفاسد بناءً على توصية القرآن الكريم بأن {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}، إلا أن يصل الخلاف الى الشرك بالله، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}.
وهذا يؤكد محورية الأسرة في ممارسة اللاعنف في التربية الفكرية، وإحاطتهم بأجواء من الحرية والاحترام المتبادل للمشاعر والآراء والافكار، كما يؤكد خطورة الكبت والاستخفاف على المسارات الذهنية للابناء الباحثة ابداً عن الجديد مهما كان، فاذا فشل الآباء في تصويب المسار نحو الافكار الأصيلة والثقافة الصحيحة، فان الكبت والعنف الفكري يدفع نحو البحث برد فعل أقوى عن بدائل لما يجده امامه من ظواهر يعدها غير صحيحة.
وعندما يكون رد الفعل هذا، ليس فقط ضد الآباء والأسرة، وانما ضد القيم والمفاهيم العليا التي يعيش في ظلها المجتمع بشكل عام، سنلاحظ النتيجة العكسية لما كان يطمح اليه الشباب، فانهم بخروجهم الى الشارع، او القيام بأعمال عنيفة تحت شعار المطالبة بالحقوق والحريات، يتحولون الى سالبين للحقوق والحريات من الآخرين، وربما من عوائلهم وآبائهم، الامر الذي يتيح للسلطات المتسهدَفَة في هذا الحراك "الشبابي" أن تقلب اصبع الاتهام الى هؤلاء الشباب الطامح الذي يعد نفسه طليعة المطالبين بالحقوق المشروعة، وضمير المجتمع والاغلبية الصامتة.
الاضطهاد الفكري قبل الاضطهاد السياسي
حتى نكون موضوعيين ودقيقين في الاحكام إزاء مثالب الانظمة الديكتاتورية في سالف الزمان والى اليوم، لاسيما ما يتعلق باضطهادها الفكري والثقافي وكبتها الحريات، فهي لا تتدخل في نوعية الافكار وطريقة تلقيها داخل التنظيمات والحركات "التحررية والإصلاحية"، بقدر ما يقتصر همّها ومخاوفها على جوهر الافكار المستهدفة لكرسي الحكم، ولمنهج النظام السياسي القائم –عادة- على الحزب الواحد، او الرمز الواحد، ما يمكن ان تفرزه هذه الافكار من أعمال، او تحركات تعبوية تشكل خطراً على كرسي الحكم، أما اذا كانت دعوات التنظيم للحرية والديمقراطية والعدل وغيرها من الشعارات الكبيرة مطابقة لأفعال قادة التنظيم، او لم تكن، فلا علاقة برجال الدولة الديكتاتورية بها، بقدر ما يكون المعني بالأمر افراد التنظيم، بل وعموم الشريحة المثقفة والواعية في المجتمع.
وبمراجعية بسيطة لتجارب العديد من الحركات والتنظيمات السياسية الاسلامية نجد فشلها بالاطاحة بالدكتاتورية السياسية، كامنٌ في فشلها في تجنب مداخل السوء بدكتاتوريتها الفكرية والثقافية.
أول وابرز هذه المداخل؛ انعدام الثقة بالافراد واحتسابهم اطفالاً صغار يُخاف عليهم من الخداع والضياع، ولذا عليهم الاستئذان من "الكبار" فيما تراه أعينهم، او تسمعه آذانهم، او ما يتعرفون عليه من وجهات النظر الاخرى، هذا فضلاً عن إبداء وجهات النظر او الاعتراض على أخطاء واضحة مهما كانت فداحتها وآثارها الكارثية، إنما المطلوب منهم؛ الطاعة، ثم الطاعة فقط، على أنهم ينتمون الى جماعة تحمل افكاراً يفترض ان تكون محور العمل المعارض، او الإصلاحي، وإن سُمح له بالاعتراض عليها او تصويبها، فهذا مؤشر خلل في هذه الافكار وقدح في مصداقيتها –كما يتصورون-، وهذا يجعلهم –ربما من حيث لا يشعرون- محط دعوات وتوجيهات الآخرين بالتزام اللاعنف، بعد ان كانت السلطات هي المستهدفة والمتهمة باستخدام العنف في كبت الحريات.
ابتعاد التنظيم عن اللاعنف الفكري، والتزام منهج {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}، هو الذي يتسبب – على طول الخط- في فشل مشاريع التغيير والإصلاح، و ضياع التضحيات الجسام أمام الانظمة الديكتاتورية التي ستجد لها متسعاً للراحة والاطئمنان أمام هذا المشهد، والأهم؛ أنه يتسبب في مساوئ للافراد ليس أقلها ضمور الابداع، وصمت المبادرة، وانتظار الافكار الجاهزة وحسب، والامر الآخر الذي لا يقل خطورة عما سبق، فهو التفكير بالتخلص من هذا "اللاعنف التنظيمي"، قبل التفكير بالنضال ضد اللاعنف والاضطهاد السياسي، وربما يجده البعض مقدمة واجبة للنجاح في الامر الأخير (عنف الدولة).
هذه الدوامة التي نشهدها منذ سنين طوال لن تبقى سالمة في دورانها مع اقتحام منصات التواصل الاجتماعي، وانتشار آلاف المواقع الثقافية والفكرية، وسرعة تبادل الافكار والمعلومات، ثم تشكل القناعات بسرعة مذهلة، الامر الذي يحتم علينا التقدم خطوات الى الأمام في سلّم الوعي بالاحداث والافكار والتطورات الجارية، من خلال رؤية سليمة غير منقوصة، وهذا يخصّ القيادات في التنظيم، والكبار في الأسرة ايضاً، كما ينسحب على الافراد بشكل عام، بأن يثبتوا قدرتهم على قراءة الاحداث والافكار بشكل يحافظ على الثوابت من قيم ومبادئ، بما يعطي رسالة التغيير والإصلاح مصداقية أكبر، فالذي "يحارب الديكتاتورية يجب ألا يكون ديكتاوراً، ومن يحارب الظلم، يجب أن يكون ظالماً، والتنظيم الذي يحارب الاصنام البشرية والحجرية، ويحارب ما هو ضد الاسلام، لايمكن ان يكون صنماً، وإلا فلا جدوى من محاربته لا إسلامياً ولا اجتماعياً، ومصيره النهائي الفشل المحتوم". (السبيل الى إنهاض المسلمين- الامام الراحل السيد محمد الشيرازي).
اضف تعليق