من المفترض أن تتكفل الدولة مسؤولية توفير الأمن للمواطن ليتمكن من العيش بسلام وطمأنينة في منطقته السكنية او في محيط العمل وفي الشارع وكل مكان... وتحميل الدولة – من حيث المبدأ- هذه المسؤولية، مردّه الى جملة اسباب موضوعية؛ منها: الامكانات المادية الموجودة لدى الدولة، وايضاً التخطيط والبرمجة وفق قواعد علمية، والسبب الآخر ايضاً؛ وجود اهداف عامة تعنونه بعض البلاد بـ "الأمن القومي"، او المصلحة العامة.
وهذه وغيرها، من اختصاص رجال الدولة من وزراء ومدراء ونواب برلمان وقادة عسكريين وأمنيين، ولا يقوى المواطن العادي، مهما أوتي من متابعة للاخبار ولتحركات الساسة ورجال الدولة، من أن ينجح في إحدى هذه المهام.
هذا يتم في الحالة الطبيعية للدولة، حيث تكون بمنأى عن التصدّع والاحتراب الداخلي، أو التهديدات الخارجية، لكن اذا كانت كذلك، والى حد العجز عن توفير الامن والاستقرار، ثم لا تقدم البديل او الحل لمعالجة هذا العجز، فان هذا يجعل الناس يعتقدون أن عليهم دفع ثمن الاخطاء، او مواجهة خطط مخابراتية بأرواح ودماء اطفالهم ونسائهم واستقرار حياتهم ومستقبلهم، وهذا ما لا تسكت عنه الشعوب اليَقِظة والواعية، لذا فهي تبحث عن البديل ولا تستسلم للموت بهذه السهولة. لذا جاءت توصية سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي في إحدى بحوثه القرآنية بأن يكون هنالك "خصخصة للأمن" تواجه بها خطر الارهاب التكفيري الذي بات يمثل اليوم حصاناً لا لجام فيه، تم إطلاقه ليستهدف كل من يكون في طريقه.
متطوعون لتوفير الأمن، ومتحدّون
وقوع الاعتداء الارهابي على مسجد الامام علي بن أبي طالب في بلدة "القديح" بمحافظة القطيف، وبعد اسبوع واحد، وفي الجمعة التالية، وقوع الاعتداء الارهابي الثاني، بنفس الاسلوب (انتحاري بحزام ناسف)، بلور فكرة "خصخصة الأمن" أكثر من ذي قبل، بسبب النفوذ الذي يحظى به تنظيم "داعش" في السعودية، كما هو الحال في بلدان أخرى، وبعيداً عن ملابسات الحادث، وما يجري خلف الستار في أروقة المخابرات السعودية، فان النتيجة واحدة بالنسبة لشيعة السعودية الذين يمثلون الأقلية، ويجدون انفسهم اليوم، في ظل المواجهة الدولية والاقليمية المحتدمة مع ما يُسمى بـ "الارهاب" بين سياسات التمييز والتنكيل والارهاب الحكومي، وبين مطرقة الارهاب التكفيري المنظم، مما يجعلهم يفكرون بجدية في طريقة توفر لهم الأمن والاستقرار وتجنبهم المزيد من سفك الدماء.
ان اصطدام الانتحاري – الارهابي بحاجز المتطوعين للتفتيش في مدخل مسجد الامام علي، في الدمام، واستشهاد أربعة من هؤلاء، يؤكد بما لامجال للشك بجدوائية الفكرة، وأنها قادرة على حقن قدر كبير من الدماء، وربما في المرة القادمة يكون عدد المستشهدين عند مداخل المساجد أقل من ذلك، اذا اتخذت التدابير الأمنية والاحترازية بشكل أفضل. وإن كان هذا أمرٌ غير وارد في الانظمة السياسية المتحضرة في العالم، أن تترك شريحة واسعة من المجتمع، تمثل حوالي عشرين بالمئة من سكان البلد، بواقع حوالي ستة ملايين انسان، يتركون للقدر وللمخططات الارهابية التي تعد خلف الستار. لكنه أحد خيارين أحلاهما مر، على الشيعة في السعودية التعامل معه.
علماً أن هذه الفكرة ليس بالضرورة ان تمر بسلام في هذا البلد المسكون اساساً بالرعب على الثروة النفطية والاموال والسلطة. فمع وجود الصراع الشديد والصامت على كرسي الملوكية، فان مسألة إطلاق الحرية للشيعة بأن يشكلوا ما يشبه القوة الخاصة بحماية أماكنهم ومنشآتهم، تمثل مادة خلافية بين المتصارعين. فحتى إن ظهرت بعض الرؤى المؤيدة لهذا، بدافع كسب الفائدة او الخطوة التكتيكية للسيطرة على الاوضاع، فان هنالك من يرى في أفق هذه الفكرة خطر كبير يهدد "الهيمنة السعودية" على المنطقة الشرقية الغنية بالنفط برمتها.
ولمن تابع مقطع الفيديو الذي ضمّ ولي العهد، محمد ابن نايف وهو يتحدث الى أحد ذوي الشهداء من حادثة "القديح"، وهم وقوف وعلى عجل، تتشكل لديه صورة كاملة عن ضخامة جدار عدم الثقة القائم بين شيعة المنطقة الشرقية وبين السلطة. حيث أطلق الامير السعودي تهديداً مبطناً للشاب، بعد أن تلقى منه اتهاماً عنيفاً بان الدولة "شريكة في الجرم" اذا لم تقم بواجبها، فكان جوابه: "لا نسمح لأي كان بأن يقوم بدور الدولة، وسنحاسبه أياً من كان"...! ولم تمض سوى أيام على هذا اللقاء، إلا ووقع حادث مسجد الامام علي، في مدينة الدمام!
تجارب ناجحة
اذا تجاوزنا النموذج العراقي، وتحديداً تجربة "الحشد الشعبي" كونه يمثل حالة خاصة في بلد تشجع الحكومة ومؤسسات الدولة فيه، هذه الفكرة والتجربة، بل هي بصدد أن تعطي هذا الحشد، او التشكيل العسكري الجديد، صفة رسمية يكون رديفاً او مدمجاً مع القوات المسلحة العراقية في قتالها لتنظيم "داعش"، وانتقلنا الى التجربة اللبنانية، نجد أن هذه الفكرة حققت نجاحاً مماثلاً لما حصل في العراق، وتحديداً في المحافظات ذات الاغلبية السنية، وذلك عندما تمكّن حزب الله اللبناني بذراعه العسكري (المقاومة الاسلامية) من تحقيق انتصارات باهرة بالسيطرة على مناطق واسعة من "جرود عرسال" تمهيداً لتحرير عرسال نفسها التي يحتلها "داعش"، وهذا لم يتم إلا بتأييد ابناء القبائل في تلك المناطق، لمبادرة حزب الله بتحرير مناطقهم بعد عجز الجيش اللبناني وتباطئه في انقاذهم من جرائم "داعش". علماً أن الرفض والامتعاض الذي صدر من جهات سياسية عديدة داخل وخارج لبنان عكسته قنوات فضائية مدفوعة الثمن، يعكس جانباً من الصراع السياسي القائم في سوريا، حيث يحرص حزب الله اللبناني على عدم تمدد "داعش" داخل الاراضي اللبنانية من المناطق المتاخمة للحدود مع سوريا، وايجاد مناطق نفوذ وموطئ قدم لها كما حصل في المناطق الغربية في العراق.
ان فكرة "خصخصة الأمن" تعكس عجزاً حكومياً لا تقبل به الحكومات – في كل الاحوال- كأمر واقع حفاظاً على ماء الوجه امام الرأي العام في الداخل والخارج، بيد الاضطرار الذي دفع المجتمع السنّي في العراق للإلتجاء الى الحشد الشعبي – الشيعي- لما يمتلك من التنظيم والتسليح لإنقاذه من جرائم "داعش"، وكذلك استنجاد أهالي عرسال في لبنان. يضع الحكومات والدول أمام أمر واقع جديد يفسح المجال امام دور مؤثر للشعب في تحقيق الأمن والاستقرار لنفسه، ومواجهة الارهاب المتمثل حالياً بـ "داعش"، بدلاً من ترك الأمور للأقدار، حيث بإمكان "داعش" او غيرها من التنظيمات الارهابية، إلحاق الضرر ليس فقط بأمن السكان الشيعة، وإنما بأمن الدول بأكملها، بما فيها من شعب وثروات وقدرات ومستقبل.
اضف تعليق